حسام حسين يكتب: ظل الرئيس.. إنسانية الأكشن

في جلسة واحدة، ولساعات لم أكن معنيًا بحسابها، شاهدت هذا المسلسل. وأنا أحمل رؤية ملتبسة حيال عنوانه. ولاسيما أن كواليس الرئيس -أي رئيس- تحمل غواية من نوع خاص، تدفع بصناع الدراما أن تكتب؛ كي تزيل أو تكشف ذاك الغموض الذي يحيط بهذه الشخصية المهمة والغنية في آن. هنالك تتحول الشخصيات المحيطة به، والموجودة في الدائرة الأقرب إلى كنوز من أسرار. أو شهود عيان لمرحلة بعينها. شخصيات من ذوي المواهب الخاصة، والقدرات التي تقترب من الخوارق. وهذا المعنى أعطاني شغفا شديدا للمتابعة، وتحفزا لمُشكل الربط بين الأحداث الكاشفة عن هذا العالم.

مقاطع الفيديو،
حسام حسين

شاهدت، وأستطيع أن أخرج بانطباعات أحسبها من عوامل نبوغ هذا العمل. بل قد أصل لحكم مبدئي مفاده. إننا على ضوء المسلسل أدركنا باليقين ماذا يقصد صناع الدراما بـ (أزمة ورق). وأشهد إنني لم أر كتابة جاءت على هذا القدر من الإحكام من مدة طويلة. فرغم تشعب الخيوط. وتقاطع الشخصيات، كنا نرى حدثا مركزيا، وعوالم أخرى تنبثق منه وخارجه تتحرك بعفوية تشبه الحياة، ودون أن تفقدنا وحدة الموضوع وتطوراته.

لست ممن يعتقدون أن الرهان على تطرف النفس البشرية، والذي أطل في لحظة التنوير لكون العم “عزت أبو عوف” هو من يقف وراء هذه الأزمة، والتي أودت بحياة ابنته وحفيده، في سبيل الانتقام من زوجها وأبيه. هو انتقام قد يبدو متجاوزا لمنطق الأشياء.

في حقيقة الأمر أحسب أن في حياة الإنسان منطقة عمياء لا تخضع لأي حسابات. ولاسيما أن الانتقام شهوة في بعض تخريجاته. يشبه إلى حد بعيد رجل يركض من أجل هدف بعينه. ولسيطرة هذا الهدف عليه، لا يتألم من أشواك الطريق الذي يركض فيه. هنا يمكن أن نقول: إن الانتقام استلب العم وسيطر عليه؛ حتى طمس كل المعاني التي قد تتصف بالإنسانية. بيد أن ما يمكن الوقوف عنده؛ أن الامتداد الدرامي الذي صاحب لحظة التنوير بين “يحيى” وعمه، وما تلاها من أحداث تفض الاشتباك بين الدراما وعناصر غموضها كي تنفتح النهايات. كان يفتقر إلى الحسم من فرط تشعب الأزمة، الأمر – ربما- الذي دفع بإنتاج نهاية قد تبدو تقليدية. وليست صادمة تجعل من المشاهد يتوقع النهاية دون أن يشاهدها.

في الضفة الأخرى وعلى نفس القياس، فإن هذه الشهوة الذاهبة لإدراك انتقام كامل إذا جاز التعبير، هي التي لم تستطع وأد هذه الرغبة في يقين “هنا شيحة” ويحيى يقفز من نافذة مكتب أبيها قفزة انتحارية كي لا تصاب هي أو أحد من موظفيها بأي سوء. لا لشيء، ولكن؛ كي تنتقم لخطيبها الذي تصادف أن التقى “يحيى” بعد أن ترك العمل في حراسة الرئيس، والتحق بأمن الدولة، ومات وقتها تحت التعذيب. ونفس الشيء فيما يخص”حازم صقر” (محمود عبد المغني) والذي تتحرك في نفسه مركبات انتقام، نظرا للتنافس القديم وقت كانا زميلين في مكان واحد.

ربما لا أميل لتصنيف الدراما التليفزيونية، رغم أحقية المسلسل بالانتماء لنوعية الأكشن والإثارة. لكن هنا فكرت في نحت مصطلح قد يليق بما شاهدته يتجه لـ”إنسانية الأكشن”. حتى ومركزية الدراما تتحرك في دوائر مستمرة لفعل الانتقام ومحاولة تفعيله وتطويره. بمعنى أن كيمياء الأكشن تتحرك في هكذا نوازع. منها الانتقام بطبيعة الحال. لكننا كنا نلمح وميض إشكاليات اجتماعية كُتبت وتم زخرفة الأكشن بها، والرائع إنها لم تظهر مقتحمة، أو كنتوء لا يوجد ما يبرره. فوجدنا زوجة الأب، صراع الأجيال (الأخ غير الشقيق ليحيى) الزواج البارد. الفقر، الفراغ والمخدرات.

من الصعب في دراما “الأكشن” أن ترى توزيعا عادلا للأدوار، فهناك بطل مركزي بكل ما تحمل الكلمة. تراه حاضرا في كل الأحداث. في ظل الرئيس أحسب أن البطولة كانت معنى، وليست صلاحيات تمنح لهذا البطل. معنى على ضوء المكتوب يأخذ منه كل ممثل ما يخصه؛ كي تتبلور الصورة الكلية للدراما كحالة. هنالك نشعر أن الجميع كان في ثوب البطل، حتى ولو كان ظهوره مجرد وميض ظهر ومن ثم اختفى. فالذي ظهر في عشرين مشهدا لم يطغَ على ممثل قد عبر من خلال مشهد واحد يتيم، وهذا الأخير كان ندا قويا على معايير الكيف، وليس الكم. الحضور المؤثر، وليس الحضور المجاني. وهذا الانطباع يفضح إلى حد بعيد الدراما المُلفقة التي تُكتب بشكل حصري لنجم بعينه. وكذلك تعيد للسيناريو الاعتبار كونه حرفة تنتخب من الحياة موضوعا مقبولا ومتسقا مع نفسه ومنطقه. وهذا مؤكد نفتقر له حاليا.

لن أتحدث هنا عن الممثلين، فكلٌ على ضوء الورق كان حاضرا بالقوة والفعل. مهما اختلفت مساحة الظهور. لكن لي قصة لانطباع قديم، تركت في نفسي أثراً لم أستطع استكماله للآن. ففي 2002 خرجت علينا رائعة “تينيسي وليامز” عربة اسمها الرغبة برؤية علي بدرخان. ولأني شاهدت معالجة “إيليا كازان” لنفس المسرحية. كنت متوثبا للمقارنة بشكل عفوي

ورغم تفاني نادية الجندي وبراعتها وقتها وخاصة إنها تلعب دورا قد منح “فيفيان لي” الأوسكار. لكن ما حدث إنني توقفت كثيرا عند “ستانلي” أو “ياسر جلال” الذي يلعب دور “مارلون براندو” لكن في النسخة المصرية. وللصدق كنت متحمسا لأدائه. والذي لم يكن استنساخا، بقدر ما كان يعبر عن فهمه للشخصية، وطريقة تعاطيه مع الهدف من وجودها. إذن فنحن أمام ممثل محترف. يستطيع أن يسكن أدواره، ويمنحها من روحه وعطاء موهبته. لكن جرت في النهر مياه كثيرة. وياسر جلال موجود ولكن في ذمة الغياب. ومن المؤسف بمكان أن يطل الرجل بعد هذه السنوات بـ “ظل الرئيس” كي نتأكد أنه موجود كممثل كبير، ونفخر دونما خجل بأننا نعيد اكتشافه.