أحمد الصاوي يكتب: المسافة بين المنيا.. وألمانيا

نقلا عن “صوت الأزهر”

شاسعة هى تلك المسافة بين المنيا جنوب مصر، وبين ألمانيا فى قلب القارة الأوروبية، رغم التشابه فى الحروف العربية بين المحافظة المصرية والدولة الأوروبية الرائدة، ليس فقط بالجغرافيا حيث تمتد المسافة بينهما نحو 5٫109.6 كم، وتقطعها السيارة فى نحو 55 ساعة، ولا فى المسافة الحضارية بين المنطقتين التى تنحاز وبقوة لدولة متقدمة ومتفوقة ومكتملة وذات تأثير سياسى واقتصادى، عن محافظة يمتد تاريخها خلفها فيما يواجه حاضرها مشكلات الفقر والتخلف والطائفية كذلك.

لكن المسافة الشاسعة تكمن وتتجلى فى خطابين خلال الأسبوع الماضى، كلاهما ينطلق من الإسلام كدين، فيما يسيران فى خطين متنافرين لا يمكن أن يلتقيا. أولهما قدمه الأزهر وشيخه فى ألمانيا.. خطاب تعايش وانفتاح وتعاون، ينطلق من كون المسلم إنساناً قبل أن يكون مسلماً، ويُعلم المسلم أن يُقدم إنسانيته على عقيدته لأنه لا تعارض بينهما، ويفهم ويسعى لنشر هذا الفهم، أن المسلمين جزء من العالم، وليسوا كل العالم. شركاء فى هذه الدنيا وليسوا أوصياء عليها، لا يرفعون رايات التكفير، ولا يستبيحون الدماء التى حرمها الله، ولا يهدمون بنيان الإنسان، الذى يباهى الله ببنائه.

والخطاب الثانى على النقيض تماماً كان فى المنيا، وسط صراخ الأطفال والنساء والرجال العُزل المسالمين، من فرط ما يتعرضون له من ظلم وغدر وإكراه واستباحة.. خطاب يحاول أن يحتكر الدين ويحاصره فى فهم مختطف للقتال، ويحاول أن يفرض هذا الفهم المشوه على العالم كله بمسلميه وغير مسلميه، ليعكس صورة وحشية لدين جاء رحمة للعالمين. كل العالمين، بما فيهم أطفال ونساء ورجال أوتوبيس المنيا المغدورين.

كان الإمام الطيب يضع الزهور فى نصب ضحايا حادث الدهس فى برلين، وكان الإرهاب يصنع صورة مغايرة شديدة الوحشية لأوتوبيس ممزق بالرصاص وداخله وحوله أجساد أبرياء استشهدوا دفاعاً عن الإنسانية، ربما ليظهر الفرق واضحاً بين الصورتين، بين يد ممتدة بالزهور، ويد ممتدة بالسلاح، وبين خطاب يألم كلما تألم إنسان فى هذا العالم مهما كان دينه، وخطاب مشوه يفرح بآلام الناس وصراخهم وموتهم.

المسافة بين الصورتين، هى ذات المسافة بين منهج الأزهر وإمامه الطيب المنفتح على العالم فى حوار إيجابى، وبين الإرهاب والتشدد الرافض للعالم والمتصادم معه، وهى مسافة يعرفونها تماماً فى ألمانيا، ولا يحتاجون وسائل قياس لتلمسها ووضع أيديهم عليها، وإنما يرونها كسائر العالم بالعين الطبيعية غير المحملة بتربص أو أحقاد أو سوء فهم أو سير خلف الانطباعات الملفقة المغلوطة.

لم يكن الإمام الطيب الضيف الأهم فى برنامج الاحتفال بمناسبة ألمانية متعلقة بالإصلاح الدينى «احتفالية حركة الإصلاح الدينى فى أوروبا التى أقامتها الكنيسة البروتستانتية بمناسبة مرور 500 عام على تأسيسها»، إلا لأنه مُصلح من أولئك المصلحين الدينيين الذين يعرفون الفارق الحقيقى بين التعايش والتشدد. بين التجديد والتفريط. بين الحوار والصدام. بين المحبة والكراهية.

حركة إصلاح دينى عمرها 500 عام تحتفى بأزهر الألف عام، فى لحظة صعبة، عرف الألمان قبل غيرهم أنهم يحتاجون فيها كما يحتاج العالم كله لأزهر ظلت الوسطية منهجه، والتعايش رسالته، ولإمام لم يترك مجالاً، إلا وأصل فيه للمواطنة الكاملة باعتبارها ليست بعيدة عن الإسلام، ودعا للمساواة بين جميع المواطنين، ودعم الحقوق والحريات ومفهوم الدولة المدنية الرشيدة، وتصدى لموجات التكفير وصدها عن الجميع «متطرفين وعلمانيين وأقباط»، مرتكزاً على منهج واضح وعقيدة ثابتة، داعياً لفقه تعايش وسلام بجهد متواصل فى الداخل والخارج.

وهو جهد يستحق أن ندعمه وأن نتشارك معه السعى إن كانت قضيتنا بالفعل هى استعادة إسلامنا الصحيح من مختطفيه، وبناء أوطاننا على أساس من المواطنة الكاملة فى دولة مدنية حديثة.

المسافة بين ألمانيا والمنيا شاسعة جداً.. هكذا تراها كل عين طبيعية، أما أولئك الذين لا يرون تلك المسافة على اتساعها، فالأرجح أن المشكلة فى عيونهم التى لا تريد أن ترى الحقيقة مرضاً أو غرضاً..!