عبد الرحمن جاسم يكتب عن “رمضان كريم” : في امتداح العادي

لايحكي مسلسل “رمضان كريم” (للمخرج سامح عبد العزيز وتأليف أحمد عبدالله) قصّة مدهشة، هو أيضاً لا يمتلك أيضاً أبطالاً نجوما من عيار كريم عبدالعزيز وأحمد السقا ويسرا (بخلاف اعتبار روبي نجمةً ساطعة أم لا)، هو كذلك لا يخفي “تويست” أو استدارة كاملة تجعل المشاهد فاغر الفاه: ببساطة يأتي المسلسل قمةً في العادية.

تلك العادية التي يحتاجها أيٌ منا لإكمال يومه الرمضاني الطويل. قد تبدو الحارة الشعبية المصرية أمراً معتاداً بالنسبة للمصريين، لكن بالنسبة لنا نحن الشاميون (تقنياً أنا فلسطيني، ولكن إخوتنا المصريين يصنفون كل القادمين من هذه الأرض باعتبارهم شاميين) تعتبر الحارة المصرية أصل مصر وجزءاً من الصورة الحقيقية التي اعتدنا توقع مصر عليها، إنها الحارة الأصل، حارة “الجدعان” و”الناس الكُمّل”؛ حارة “القهوة عالناصية” و”صوت أم كلثوم اللي بيلعلع”، “حارة الكل اللي بيعرف الكل”.

لايشذ مسلسل “رمضان كريم” عن هذه الحكاية، على الرغم من أنه ببساطة بلا قصةٍ تقريباً، إنها حكايا يومية لأناسٍ عاديين، منسيين، إنها رواية العادي اليومي والمعاش البسيط. عائلات تتفاعل بشكل يومي مع شارعها خلال شهر رمضان، لا أكثر ولا أقل. لا تحاول حتى أن تخلق قصصا مدهشة غير معتادة ضمن ما يحدث. أصلاً لاينتظر المشاهد أن يشاهد حادثة قتلٍ مروعة، أو قضيةً إشكالية تجعل كل ما في المكان ينقلب رأساً على عقب. إنها الجرعة العادية من الأمور التي يحتاجها الإنسان، حتى ذلك البعيد عن الحارة المصرية، يحتاجها لجعلها مطمئناً أن كل شيءٍ بخير.

مع بدايات الأزمة السورية كان من الطبيعي أن يكون إصرارنا نحن المشاهدون على مشاهدة مسلسلات “اجتماعية” سورية، لسببٍ بسيط هو أنَّنا كنا نريد أن نتأكد بأن السوريين لايزالون على قيد الحياة، بخير. كنا نريد أن نطمئن. هذا ما يفعله “رمضان كريم”، إنه يطمئننا على مصر، يطمئنا على المواطن العادي فيها، بكل ما في حياته من شقاء وهناء، بكل ما فيها من حركةٍ وألق وبساطة. قد لا يعجب كثيرون إذا ما قلنا بأن المسلسل يطوّب روبي “شعبيةً/حقيقيةً” إلى حدٍ كبير، وهي صفةٌ تحتاجها الفنانة السمراء، بعيداً عن كليباتها السابقة والصورة النمطية التي عُرفت بها سابقاً.

هي لا ترتدي “المحزق والملزق” في المسلسل، هي مجرد فتاةٍ من منطقةٍ شعبية، وهذا يحسب لها، إذ لا تستعمل إغراءً من أي نوع في دورها، وهي لا تحتاج ذلك البتة، إنها فتاةٌ عادية تعمل بائعة في إحدى “المولات” لا أكثر ولا أقل؛ حتى في تلك اللحظات الأكثر “جذباً” هي لا تفعل أكثر من إخفاض صوتها واستعمال جمالها الفطري؛ فيما “تتوحش” في لحظاتٍ أخرى لتظهر جانبها القوي القادم من حياةٍ قاسية. هي ببساطة girl next door الشغل الشاغل لسينما هوليوود منذ أعوام؛ الفتاة التي هي شقيقتك ووالدتك وزوجتك؛ بعيداً عن رتوش البهرجة التلفزيونية المعتادة.

من جهةٍ أخرى ليست روبي وحدها في العمل التي تعطيك الإحساس باليومي/المُعاش، فوالدها رمضان -والذي يؤدي دوره الفنان القدير سيد رجب- يلقي كعادته ظلاً جميلاً على العمل، صوته، حركته، سلوكه، كله يوحي بالكثير من العادية والطبيعية: إنه صائمٌ غاضب من الصيام الطويل والمنهك، لديه بنات يريد تزويجهن، مشغولٌ بصيام ابنه الصغير مدمن الكرة، يلقي التعليمات هنا وهناك، والأهم هل أحضروا “جركن” العصير؟ وماذا عن “الطرشي”؟ زوجته سلوى عثمان ربة منزل عادية بلا رتوش أو فواصل؛ سلوى التي من الممكن اعتبارها واحدةً من أكثر الفنانين تعرضاً للظلم، إذ تمتلك الفنانة القديرة كاريزما مدهشة، لكن المخرجين يحشرونها في أدوارٍ محدودة سلفاً، مع أنها تمتلك مساحةً واسعة للأداء. شريف سلامة على صغر دوره جيد، محمود الجندي في دور الشيخ المؤذن ذو الصوت المزعج الذي اعتاد الجميع على تحمّله، “لأن هذا قدرنا” بحسب التعبير الذي تقوله نجلاء بدر. ونجلاء بدر حكايةٌ أخرى، فهي عليها –وحدها دون غيرها- الابتعاد عن الأدوار “الشعبية”.

تمتلك نجلاء الكثير من كاريزما الصالونات، أي إنّها قادرة بسهولة على أداء دور بنت الباشا، الثرية، الغنية، والإقناع بأنّها كذلك، في حين –رغم أنها جيدة في دورها هنا- إلا أنها تشعر المشاهد أنها “لا تنتمي إلى هذا الديكور/المكان” (وعلى فكرة هي تستطيع أن تكون الثرية الشريرة، الثرية الطيبة، الثرية الغاضبة، الثرية التي فقدت ثراءها، وقس على ذلك، أي لا تحشر نفسها في دورٍ واحد ويمكن كذلك استبعاد كلمة الثرية واستبدالها بكلمة “ميسورة الحال” مثلاً في حال تضايقت من حشرها في ذلك الإطار). قصصٌ كثيرة يرويها المسلسل ضمن أطرٍ متشابكة، الشاب العائد من أوروبا بعد فشل رحلته (بعيداً عن معتاد الرحلة إلى أوروبا والنجاح و”الفلوس اللي زي الرز هناك”)، لاعب الكرة السابق والمدرب الحالي الحالم بإيصال ابن أخته إلى “العالمية” (في إشارة إلى نجاح لاعبين مصريين في الدوريات الأوروبية)، الشباب الذي يصومون فقط لإرضاء أهلهم، وقس على ذلك.

باختصار، هو مسلسلٌ عادي في أيامٍ ليست عاديةً أبداً. نحتاجه كثيراً، أكثر مما يعتقد صنّاعه بكثير.