صحافة «زينب» وإعلام «العرش».. في كل العصور

محمد مصطفى أبو شامة

كانَتْ إعادةُ المسلسل الشهير «زينب والعرش» خلال شهر مايو الجاري على قناة «ماسبيرو زمان»، سببًا طيبًا لأن يباغتَنِي الصديق العزيز محمد عبد الرحمن رئيس تحرير موقع «إعلام دوت أورج» بسؤاله عن «الذي تغير في الصحافة من زمن (زينب والعرش) وحتى اليوم». وعلى طريقته في «القلش» كنتُ سأجيبه بشكل فوري، أن الذي تغير هو «زينب» فقط، وأصبَحَتْ منى، أو لميس، أو أسماء، أو ريم، أو جميلة، أو غيرهن من نساء الإعلام في عصرنا، ولكنني استشعرتُ ثِقَل ظلي، فأنا لا أملك مهاراته في المراوغة بأقل الكلمات، وقدراته القوية في السخرية.

وبعد متابعة يومية لـ«زينب والعرش»، زادَهَا متعةً حضورُ النَّصِّ الروائي للأديب الكبير فتحي غانم، ومراجعتي اليومية لأجزاء زادت قيمتها ولمع بريقها كلما أعدت قراءتها، وجدتُ أن الأمر يستدعي مقالًا رشيقًا عن عمل أظنُّهُ فارقًا في حياتي وحياة الكثيرين من جيلي، خصوصًا مِمَّن «اشتغلوا» بالصحافة «فاشتَغَلَتهم».

عبد الهادي النجار وحسن زيدان ويوسف منصور، هم الصحافيُّون الثلاثة الذين يتشكل بهم مثلث الصراع الدرامي في «زينب والعرش»، وهم يعبرون عن نماذج حقيقية في بلاط صاحبة الجلالة، وأظن أن أستاذنا فتحي غانم قد اختزل في كل شخص منهم عشرات الأسماء من نجوم الصحافة في زمانه، فيمكن أن تلاحظ في شخصية عبد الهادي النجار، رئيس التحرير مثلًا، ملامح هيكل ومصطفى أمين وكامل الشناوي، وربما تشعر بأن يوسف منصور هو فتحي غانم نفسه أو أحمد بهاء الدين أو إحسان عبد القدوس أو أنيس منصور أو غيرهم من الأصليين عُشَّاق الصحافة الحقيقيين، أما حسن زيدان فهو السواد الأعظم من العاملين بالمهنة، وهو نجمها الدائم وبطلها الأوحد في كل زمان ومكان.

والشخصية المحورية وممثل العرش هو أحمد عبد السلام دياب، الرقيب العسكري الذي برز دوره مع العهد الثوري، والذي تم تكليفه بالهيمنة على صاحبة الجلالة وتسخيرها لخدمة الأهداف النبيلة للثورة، فلم يجد أمامه إلا الأساليب القذرة لتحقيق هذا الهدف، في مفارقة ثورية مستمرة. أما زينب بطلة الرواية، فهي روح الحدوتة ومصدر فتنتها وجمالها، وسر ترابطها وتماسك بنيانها، هي الأرض الطيبة التي جمعت كل القلوب في حبها، واختطفت الجميع بسحرها وجاذبيتها.

وقد شارك فتحي غانم مع رفيق عمره الصحافي الكبير صلاح حافظ في كتابة السيناريو والحوار للمسلسل المأخوذ عن روايته، الذي أخرجه يحيى العلمي عام 1979، وأنتجته الشركة العربية للتلفزيون (شركة خليجية).

وقد حاول فريق العمل بكل السبل تقريب الشبه بين دياب والرئيس السادات، ولهذا أسباب أبرزها أن السادات لعب هذا الدور فعليًّا عندما عُيِّن رئيسًا لمجلس إدارة الجمهورية منذ تأسيسها عام 1953 وحتى 1959، ومن المفارقات أن فتحي غانم قد تولى المنصب نفسه من عام 1966 وحتى عَزَلَه السادات (الذي أصبح رئيسًا للجمهورية كلِّها) بعد قضية مراكز القوى في مايو 1971، وتم منعُهُ من الكتابة الصحافية، فكتب «زينب والعرش» أشهر رواية صَدَرَتْ عن دهاليز وكواليس عالم الصحافة في مصر، كتبها وبداخله أشياء تجاه من عزله.

الرواية والمسلسل ظهرا في السبعينات، ويتحدَّثَا عن عصر ما بعد ثورة يوليو في الخمسينات والستينات وصولًا إلى نكسة يونيو 1967، ويُعَاد عرضُهُ في عام 2017، وبين الأزمنة والعصور لم يتغير شيء سوى اسم المهنة الذي تَحوَّل من الصحافة إلى الإعلام، وبقيت الشخوص نفسها؛ النجار ويوسف وزيدان ودياب.. حتى زينب ما زالت وطنًا يبحث عن هويته وعن إجابات لكل أسئلته المستحيلة، المدهش أن المسلسل يلحّ طوال حلقاته الـ31 على أن الحل الوحيد لكل مشكلات زينب هو التعليم، وهو الحل ذاته الذي تنتظره زينب في كل العصور، ولا تقدر عليه.

وفي الحلقة الأخيرة من المسلسل، التي ترصد حال مصر بعد النكسة، وفي مواجهة قوية بسبب ما وصل إليه محتوى صحيفة «العصر الجديد» التي تدور فيها كل أحداث المسلسل، يجري هذا الحوار الرائع بين بَطَلَي المسلسل العملاق محمود مرسي (عبد الهادي النجار) والمتألق حسن يوسف (يوسف منصور).

يوسف: أنا جي أكلمك إنت يا أستاذ عبد الهادي.. البلد في محنة وأنت تقدر تساعدها.

النجار: أساعدها إزاي؟

يوسف: تديها أمل.. تنسِّيها الهزيمة.

النجار: إيه اللي أنا باعمله غير كده.. وإيه اللي ممكن ينسي الناس غير المقالات والأخبار دي اللي مش عاجباك؟!

يوسف: بس ده تخدير للناس.

النجار: لا ده مش تخدير وإنت الصادق.. ده زار.. مفيش واحدة ست في عيلتكم عملت لنفسها زار عشان تنسى مصايبها؟.. أهو انا بقى باعمل للبلد زار عشان أنسِّيها مصايبها.

يوسف: آه فهمت بقى حضرتك بتعالج مصر على طريقة الكودية بتاعت الزار.

النجار: أيوه عندك إنت طريقة تانية غير دي؟

والشيء بالشيء يُذكَر، ويأخذنا حديث «كودية الزار» إلى خبر تناقَلَتْه قبل أسابيع وسائل إعلام محلية وأجنبية ربما لأهمية وشهرة بطل الخبر، توفيق عكاشة صاحب فضائية «الفراعين» المغلقة ونائب البرلمان السابق، وجاء في تفاصيل الخبر: «قضت المحكمة بحبس توفيق عكاشة سنة، وتغريمه كفالة 5 آلاف جنيه، بتهمة تزوير شهادة الدكتوراه. وكَشَفَ مقدِّم البلاغ، أن عكاشة حاصل على مؤهل فوق متوسط بتقدير مقبول من المعهد العالي للخدمة الاجتماعية بجامعة كفر الشيخ، وكانت التحقيقات قد كشفت أن عكاشة قام بشراء وتزوير شهادة دكتوراه منسوبة لجامعة أمريكية غير موجودة».

وعكاشة ومَنْ هم على شاكلته من نجوم إعلام «كودية الزار» المنتشرين عبر فضائيات رجال الأعمال ومَن وراءَهم، هم العشاق الجدد لزينب والخدام الأكثر نجاحًا في بلاط العرش في عصرنا الحالي.