محمد عبده بدوي: صديقي المثقف والوضعية mute

كلما زرت صديقي المثقف في بيته ، تشدني طريقة مشاهدته للتليفزيون …. لكل واحد منا طقوسه الخاصه بالفرجه على هذا الجهاز العجيب، البعض يفضل الاسترخاء الكامل على الكنبه مصحوبا باستسلام لذيذ لما تبثه الشاشة، والبعض تجده مستنفرًا ومحتشدًا أمام الشاشة، وكأن الواحد منهم يشاهد التليفزيون بجسده كله وليس بعينيه ! وهناك من لا يجد النوم طريقه إلى عينيه إلا على صوته كالأم التي تهدهد أطفالها ليناموا، ومن العادات الغريبة التي قرأت عنها ما كان يقوم به بيكاسو فكان يشاهد التليفزيزن مقلوبا على رأسه …. ليرى العالم بشكل مختلف!.

صديقي المثقف قلما يتابع التليفزيون واذا شاهده مساءا … شاهده صورة دون صوت ! بعد الضغط على زر كاتم الصوت ( ميوت ) … مؤكدا لي في كل مرة أن أهم اختراع عرفته البشريه هو الريموت كنترول وتحديدا هذا الزر السحري الذي يجعلني سيد العالم.

كنت أتعجب ما الذي يعنيه أن يشاهد أحد التليفزيون دون أن يسمعه ! وما الحكمة في ذلك ؟!

فأداعبه مازحًا: ( يا عم وفر كهربا واقفله أحسن ).

كان رده عميقا كعادته: ( يا صديقي …تتملكني لذة عجيبه، حين أبدأ في متابعة أحد برامج التوك شو لدقائق قليله، سرعان ما أستشعر أن عقلي سيصبح نهبا لكل من هب ودب وأطل على الشاشة معتقدا في نفسه أنه يملك كل الحقيقة، ساعتها أمسك الريموت كنترول بيدي وأضغط على زر كاتم الصوت … هذا الفعل يجعلني أنتصر لعقلي، أحرره من زيف يصب على رأسي بلاهواده، فأشبع رغبة دفينة بداخلي لأنتقم وأعذب هؤلاء اللذين صدعوا عقولنا لسنوات !)

الغريب أنه حين يضغط على هذا الزر – كاتم الصوت – ، لا يبتعد عن الشاشة وإنما يستمر في متابعة البرنامج صورة دون صوت .. ساخرًا من انفعالات المذيع وحركاته البهلوانية وكأنها حركات لكائنات خرافيه عبثيه … كان يقول لي : هذه تسليتي الوحيدة كل مساء.
( يا صديقي: التليفزيون يمارس ضد عقولنا ما يعرف بالعنف الرمزي، وأنا أبادله عنفا بعنف !! )

استوقفتني هذا التعبير ( العنف الرمزي )، ودفعني ذلك لإعادة قراءة كتاب بيير بورديو ( التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول ) والذي صدر في ترجمة رائقة وجذابه لدرويش الحلوجي عن دار ميريت ، يرى بورديو في كتابه أن التليفزيون هو أداة للعنف الرمزي وهو عنف يمارس بتواطؤ ضمني من قبل هؤلاء اللذين يخضعون له وأولئك اللذين يمارسونه بالقدر الذي يكون فيه أولئك كما هؤلاء غير واعيين لممارسة هذا العنف أو الخضوع له ، وأبرز مظاهر هذا العنف أن التليفزيون يملأ أوقات الناس بالأشياء غير الضرورية وغير الهامة وهو يستهلك زمنهم في قول أشياء تافهة تخفي في الحقيقة بالقدر نفسه الأشياء الثمينه، وبهذا المعنى فالتليفزيون يسهم في نشر وعي زائف أو بحجب المعلومات الضروريه عبر لعبة سماها بورديو ( لعبة المنع بواسطة العرض ) ، أشياء يتم اخفاؤها عن طريق عرضها وذلك بواسطة عرض شيء آخر غير الذي يجب عرضه ، ويقدم بورديو أفكارا عما يسميه الغذاء الثقافي السريع المقترن بأفكار مسبقه في البرامج الحواريه التي يرى أنها تفتقد للاستقلالية ، فالموضوع الذي سيناقش تم فرضه ، وشروط الاتصال والحوار تم فرضها كما أن تحديد الزمن المفروض على خطاب المشاركين يفرض بشكل خاص حدودا صارمة بحيث يصبح من غير المحتمل وجود امكانية لكي يقال كل شيء ، فهذه هي رقابة خفية يمارسها القائمون على تلك البرامج .

أن تقرأ هذا الكتاب زميلي في المهنة يعني أنك أدخلت نفسك طوعا في محاكمة قاسية ، وخصوصا أنك ستشعر مع كل اتهام يطلق عليك بأنها محاكمة عادلة ! وعليك أن تتذكر جيدا وأنت تتهيأ للوقوف أمام الكاميرا أن صديقي المثقف- وغيره كثيرون – يمكن لهم أن يمحو صورتك ويكتموا صوتك بضغطة زر واحدة .

اقرأ أيضًا:

محمد عبده بدوي: في أهمية أن يتثقف الإعلام

محمد عبده بدوي:رصاصة كريس كايل “الأخيرة”

محمد عبده بدوي: كيف تقرأ الأخبار دون أن تنفجر جمجمتك!

محمد عبده بدوي: هذا الهواء.. ليس لي

تابعونا عبر تويتر من هنا

تابعونا عبر الفيس بوك من هنا