حسين عثمان يكتب: اللعب فى الدماغ

جاءت تهنئة الفريق أول صدقي صبحي، القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي، والتي بعث بها للرئيس عبد الفتاح السيسي، بمناسبة الاحتفال بالذكرى السادسة لثورة 25 يناير، جاءت وكإنها تؤكد من جديد شرعية هذه الثورة، التي لا يزال المتضررون على اختلاف دوافعهم، يعملون جاهدين على التشكيك في شرعيتها، وحصرها في نطاق المؤامرة، تقليباً لقلوب المصريين عليها، فقد نصت برقية وزير الدفاع على: “السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، يسعدني أن أبعث إلى سيادتكم في ذكرى يوم مجيد من أيام الوطنية المصرية، يوم الخامس والعشرين من يناير، بأصدق آيات التهاني مع الذكرى السادسة، لثورة الشعب التي حمتها القوات المسلحة، وساندت مطالبها المشروعة، في الحياة الحرة الكريمة”.

نعم، فقد كان يوماً مجيداً من أيام الوطنية المصرية، عاد فيه الوعي للمصريين، بعد أن استسلموا سنوات طويلة لمحترفي اللعب في الدماغ، ولم تكن إلا ثورة شعب، ولم يفعل الجيش إلا حمايتها، ولا يزال يحميها، وسيظل مهما اشتدت المعارك، لا لشيء إلا لأنها عقيدة الجيش المصري التي تربى عليها، ويتوارثها جيل وراء جيل، وإن كانت هناك مؤامرة، أو مؤامرات، فهي على هذه الثورة النقية، والتي يجتمع عليها أصحاب المصالح، فلا يقف وراء التآمر عليها، إلا المتضررون، الذين حاولوا الانقضاض عليها، وفشلوا مرة بعد مرة، ولكن لا تزال تدب فيهم الروح، وما يعطيهم وغيرهم الفرص، هو انقسام المصريين، وفي المقدمة منهم الشباب، الذي كان القوة الضاربة لثورة يناير، ولكنه لم يستطع التوحد إلا 18 يوماً فقط، أسقط خلالها مبارك، وذهب بعدها، تاركاً ألف مبارك ومبارك، يعبثون بأقدار الوطن هنا وهناك!!.

وهذا أسوأ ما فعلنا بأنفسنا، ولم تفعله بنا ثورة يناير، أن ذهب كل فريق منا في طريق، ففتحنا الأبواب جميعها لأولئك وهؤلاء، فلم يفعلوا إلا أن بدأوا من جديد اللعب في الدماغ!!.. تناسى الجميع العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، ولم يجتهد إلا في الارتقاء بهذا إلى صفوة الملائكة، أو الخسوف بذاك إلى حثالة الشياطين!!.. رفضنا منهج الإقصاء في مواجهة الجماعة، ونمارسه عن عقيدة في مواجهة أنفسنا!!.. نصبنا أنفسنا عالمين، فاكتشفنا أنفسنا مراهقين، لا يستهوينا إلا تويتة لفلان، أو صرخة لعلان!!.. بوست للشير هنا وهناك، أو تسريبة نقضي معها الليل وآخره!!.. جماعة تأخذنا يميناً، وحزب يأخذنا يساراً، وائتلاف يصعد بنا إلى الهاوية!!.. كلنا هذا الرجل طوال ست سنوات، إلا من رحم ربي، ونجتهد في كل وقت، حتى نكون ممن يشملهم برحمته.

إذا كان اختلاف الفقهاء رحمة، فاختلاف أهل الوطن الواحد فريضة، نعم، اختلافنا مطلوب وواجب، ولكن بشرط أن تخلص النوايا لله والوطن وأهله، فيشكلوا معاً أرضية اختلافنا، وبشرط أن نعرف كيف نختلف، أن نتوافق أولاً على أن الاختلاف طبيعة إنسانية، أرادها الله في خلقه حتى يحتاجون بعضهم البعض، يتكاملون بتنوعهم، فيتوحدون في تعايشهم، وتكون وحدتنا في تنوعنا، يصعب علينا هذا طوال ست سنوات، فنقف محلك سر، نتخبط يميناً ويساراً، في حين استطاع خمس القوى البشرية في الصين مثلاً، أن يتفقوا على مبدأ الوحدة في التنوع، فكرة الحكيم الصيني القديم كونفوشيوس، فباتت سياسة الانسجام والاعتدال، سمة مميزة للثقافة الصينية، الجميع هناك آمن بسياسة المواءمة، وفضلها على سياسة المواجهة، وانتهج سياسة الاعتدال، بدلاً من سياسة التطرف والمغالاة، فكان ما كان بأن أصبحت الصين في ثلاثة عقود، هي ذاتها نفس عقود حكم مبارك، ومتزامنة معها، أن تصبح القوة العظمى الثانية عالمياً، وعلى طريقها لأن تصبح الأولى، خلال ثلاثة عقود أخرى قادمة.

نحتاج إذاً أولاً لأن ننسجم مع أنفسنا، نتصالح معها، ثم نذهب للانسجام مع الآخرين، نتصالح معهم، وحتى نستطيع جميعاً الانسجام مع الوطن، والتصالح معه، وهو ما لن يتحقق أبداً، إلا بأن نرتقي أولاً بأنفسنا إنسانياً، أن تكون إنساناً أولاً، وقبل كل شيء، وفي كل وقت، أن تكون إنساناً قبل أن تكون دينياً أو لا دينياً، مسلماً أو مسيحياً، متعلماً أو أمياً، غنياً أو فقيراً، رجلاً أو إمرأة، كبيراً أو صغيراً، ناجحاً أو متعثراً، كن إنساناً أولاً بأن تضع لنفسك الأفكار التي تؤمن بها، وشكل منها منهجاً لحياتك، قوامه الانسجام مع نفسك، ومع الآخرين، ومع وطنك، ولا مانع وقتها في اختيارك الوطن الذي تنسجم معه، أليس من الأفضل اختيار وطن تتعايش معه، عن أن تظل جلاداً لذاتك والآخرين ووطنك الذي لا يرضيك، فلا ترضى عنه بأي حال من الأحوال، ابدأ بنفسك، وأسرع، فالعمر مهما طال قصير، والحياة تستحق أن تعاش، ولا خاسر إلا أنت، طالما تركت دماغك هناك، يلعبون بها وفيها.