نسمة سمير تكتب: الفتى القطبي .. من العدل أن نصبح أنانيين أحيانًا

نسمة سمير - مقالات

“الموهبة وحدها لا تكفي بلا روح”، من أهم وأصدق الجمل التى سمعتها فى فيلم الفتى القطبي، وكنت قد قرأتها من قبل فى كتاب موهبة لا تكفى أبداً لـ  جون سى ماكسويل ، فالكثير يعتقد أن الموهبة هى كل شيء وسبيل النجاح، ولكن فى واقع الأمر كثير من الموهوبين ماتوا ولم يعرف عنهم أحد شيئا فى الوقت الذى ذاع فيه صيت آخرين، فالموهبة تضعك على بداية الطريق ولكن لن تضمن لك البقاء فى المقدمة، ولتصبح مميزًا عليك بالروح، امزج أعمالك الفنية بروحك فهي أساس كل شىء ومن الروح ينبع الجنون والحزن والفرح والعقلانية والسعادة والكآبة، الروح هي ينبوع الحياة.

تشابة كبير يربط ما بين الفيلم الأول للمخرجة (أنو أون) “الفتى القطبي” وما تناوله كتاب ماكسويل، فبطل الفيلم (ماتيوس) يشبه كثيرا نسر ماكسويل، يروي ماكسويل أن فتى تسلق جبلاً وأخذ بيضة من عش أحد النسور ثم وضعها بين بيض دجاج وعندما خرج النسر الصغير من البيضة اعتقد أنه دجاجة ولكن من حين لآخر كانت تأتيه مشاعر غريبة تطارده وكأنه شخصًا آخر يريد أن يحلق ولكن جميع من حوله يؤكدون له أنه دجاجة لن يستطيع التحليق، وفي أحد الأيام فرد النسر جناحيه وحلق بعيدًا.

فى الفتى القطبي، يحلم ماتياس بأن يدرس التصوير الفوتوغرافي في أكاديمية برلين للفنون، ولكن فى البداية يلتقط صور بلا روح ولكن باحترافية عالية، حتى يلتقي بـ هانا ويقع فى حبها فيبدأ بالتمرد على حياته السابقة ويشاركها جنون روحها الحرة حتى يفوز بقلبها ويلتقط العديد من الصور الممزوجة بروحه، ثم يكتشف أنها مريضة بالهوس الاكتئابي أو ثنائية القطب ولكنه يقرر البقاء معها، فيجازف بحلمه من أجلها ويدخل السجن بعد ارتكابه جريمة بسبب تصرفاتها الجنونية، ويدعي مرضه بثنائية القطب حتى لا يسجن.

أحداث الفيلم ستصدم الكثيرين منا، فأعراض ثنائية القطب تتواجد بداخل كلا منا ولكن بنسب متفاوتة، ولكن من الواضح أن الجميع يعاني من الهوس الاكتئابي، ربما بسبب الضغوط والقيود التى تحيط بنا، فمن منا لا يعاني من الأرق فى بعض الأوقات، و تدفق الأفكار بشكل كبير حتى ولو لمدة ساعة فقط، وهناك الكثير يعانون من الشعور بالعظمة، وتعترينا رغبة أحيانًا فى السهر من أجل حصد بعض اللحظات السعيدة، ولكن عندما تزداد تلك النسبة عن معدلها الطبيعي تشكل خطرًا على صاحبها ومن حوله لأنها قد تصبح مؤذية للنفس.

وحالات اليأس التي يصاب بها مرضى ثنائية القطب، تصيب عدد كبير منا، فتأتي علينا أوقات كثيرة تحيط بنا طاقة سلبية مخيفة، ويملأنا اليأس وتسود السوداوية فى أرواحنا، ويسيطر علينا الإحباط، نجد أنفسنا مشتتين، مبعثرين لا نعرف أين نضع أقدامنا، ماذا نريد؟ غير راضيين عن ما وصلنا إليه، حساسين للغاية، فنشكو كثيرا ونسرد أوجاعنا ونتذكر كل الأحداث المؤلمة فى حياتنا، فتجد نفسك تتساءل “هل أنا مريض ثنائي القطب أم العالم هو المريض؟!”.

كثير من المشاهير أصابهم مرض الهوس الاكتئابي، منهم تشارلز ديكنز, وأرنست هيمنجواي ووليام فولكنر وفيرجينيا وولفلورد بيرون وجون كيتز وسيلفيا بلاث، فينسينت فان جوخ، بيتهوفن وروبرت شومان، كاري فيشر وليندا هاملتون وفيفيان لي وجين كلود فان دام ومارلين مونرو التي ماتت منتحرة بسبب المرض، ومن رجال السياسة ونستون تشرشل وبنيامين فرانكلين وتيودور روزفلت الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية, وروبرت بورستين المساعد الخاص للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، كما أصيب به اسحاق نيوتن ولودويج بولتزمان، وكاي ردفيلد جاميسون والتي كتبت تجاربها مع المرض, و ألفت كتابا يصف العلاقة بين المرض والإبداع الفني.

فى المصحة النفسية، سيكتشف ماتيوس أن ثنائية القطب ليست دائما مرض وأن هانا حبيبته لم تكن مريضة، بل صادقة وحرة تتصرف على سجيتها، ولكن تعلق تصرفاتها المجنونة على المرض لتفلت من العقاب والروتين، فجميعنا نتأرجح بينا لحظات الفرح والاكتئاب، والحزن والسعادة، والمبدعين والاستثانيين أكثر عرضة لتلك الحالة، وذكر البعض إن العباقرة هم الأكثر عُرضة للإصابة بهذا المرض لوجود علاقة وثيقة بين المرض والإبداع ، ولذلك يجب التفرقة بين المبدع وبين المريض، فليس كل متمرد أو استثنائي ثنائي القطب.

ليست كل القواعد ثابتة ويجب علينا كسر القاعدة أحيانًا والخروج عن النص، وهنا قد يتهمك الكثير بالجنون وتجد نفسك خلف أبواب مصحة نفسية لمجرد كونك مختلف عن الجميع، وهنا يجب عليك أن تثق بنفسك وبموهبتك وروحك وإبداعك الذى تريد توصيله للعالم، وللأسف ستكتشف فى نهاية الفيلم أن التضحية قد تؤذي صاحبها بشدة، فـ ماتيوس عندما قرر أن يبقى بجوار حبيبته المريضة دخل السجن، وعندما عامل ماتيوس أحد المرضى بالمصحة بلطف كاد أن يقتله، حتى صديقه تخلى عنه فى أول محنة، لذلك فى النهاية عندما كان عليه الاختيار بين إنقاذ حياة هانا وبين إمتحان تخرجه قرر أن يكون أنانيا بعض الشيء فذهب إلى الامتحان وأرسل والد هانا لإنقاذها، فمن العدل أن نصبح أنانيين أحيانًا.