محمد حمدي سلطان يكتب: 10 أعوام بدون أمي

( 1 )

– ما بلاش منها العملية دي والنبي ، وبعدين ما إنتي عملتيها 3654564
مرتين قبل كدة و( الفتاق ) ده رجع تاني

– تاعبني المرة دي أكتر وطابق على نفسي، متخافش الدكتور طمني
وقال بسيطة، إن شاء الله هتكون آخر مرة، ولو ربنا كتبلي أقوم منها
أسوِّى معاشي وارتاح واقعد في البيت

– إن شاء الله هتقومي بالسلامة

– وبعدين أطلع عمرة وأعيش لحد ما أفرح بيك وساعتها مش عايزة حاجة تاني من الدنيا

– ربنا يديكي طولة العمر يا أمي ، هتقومي بالسلامة وتعملي كل اللي
نفسك فيه إن شاء الله

هكذا كنا ننظر إلى المستقبل أنا وأمي في تلك اللحظة، وكانت تلك الأحلام البسيطة هي أقصى أمانيها وكل ما تطمح إليه، ولم نكن نعلم حينها ما يخبئه لنا القدر..

( 2 )

صباح يوم الأحد .. قبل الوفاة بـ 48 ساعة

دخلت أمي إلى غرفة العمليات بإحدى المستشفيات الخاصة بشارع السودان، ودعتنا وهي تبتسم وبمجرد دخولها تركت إخوتي ونزلت إلى الشارع أمشي بلا هدف، وأنا أشعر بهم ثقيل يجثم على صدري ، مشيت كثيرًا ثم عدت من نفس الطريق، شعرت بالتعب فجلست على أحد المقاهي بعد أن اشتريت جريدة جلست أقرأها وأنا لا أفكر سوى في أمي وفي العملية التي تُجرى لها الآن، عدت إلى المستشفى فوجدت إخوتي مبتسمين سعداء ويقولون إن أمي قد خرجت بالسلامة، دخلت إلى غرفتها ورغم فرحتي إلا أنني لم أطِق رؤيتها في تلك الحالة، فجلست ساعة أو ساعتين وعدت إلى المنزل وأنا لا أتمنى شيئًا سوى أن تمر الأيام سريعًا حتى تُشفى أمي وتعود بكامل صحتها، ولكنها أبت أن تمر، إلا بطيئةً وثقيلةً وقاسية..

( 3 )

لم أذهب للمستشفى في اليوم التالي إلا مساءً وقررت أن أبيت مع شقيقتي المصاحبة لأمي منذ البداية، لم أنم تلك الليلة، ظلت أمي تئن وتتوجع، طلبنا من إحدى الممرضات إحضار الطبيب في الحال ليراها ولكنه لم ياتِ إلا متأخرًا، أجرى فحصه سريعًا وطمأننا أنها بخير وحالتها مستقرة وأن ما تشعر به من تعب هو تأثُر بالجراحة وأمر طبيعى ولا يدعو للقلق وأنها ستكون بخير في الصباح وصدقناه للأسف، كانت أمي تنظر إلينا وتبتسم، تتكلم كلمات قليلة وأكثر ما سمعته منها في تلك الليلة هي كلمة (الحمد لله).. نامت قليلًا عند الفجر بينما وقفت أنا في الشرفة أرقب الناس والطريق وأشتم نسمات الصباح الأولى وأنا أفكر في المستقبل بعد خروج أمي الوشيك من المستشفى، أفكر في أن هذا الكابوس المخيف على وشك أن ينتهي تمامًا ولم أكن أعلم أن أسوأ كوابيسي وأشنعها على الإطلاق سيبدأ بعد لحظات قليلة..

( 4 )

منذ أن وعيت على الدنيا وأنا أرى أمي تعاني من المرض، ومنذ أن وعيت على الدنيا وأنا أرى أمي تعمل، لم تجلس يومًا بالمنزل، وبرغم ذلك كلما تذكرتها أول ما يتبادر إلى ذهني صورتها وهي واقفة في المطبخ تحضر الطعام، إنها أمي التي خذلتها كثيرًا بسبب إهمالي للمذاكرة وانشغالي بلعب الكرة ومشاهدة المباريات، كانت في وادٍ وأنا في وادٍ آخر، لم أعرف قيمتها الحقيقية وقيمة ما كانت تفعله من أجلي وقيمة أن تكون فقط موجودة إلا بعد رحيلها، أمي التي لم أحب أحدًا مثلما أحببتها وأعلم تمامًا أنني لن أجد بعدها من يحبني أكثر مما يحب نفسه مثلما كانت هي تفعل، ودون أن تقصد أو تتعمد فهذه هي فطرتها التي خلقها بها الله، ولذلك وُضعت الجنة تحت أقدام الأمهات، لكن قليلًا من يستطيع أن يراها، أو يدرك وجودها من الأساس..

( 5 )

جاء الطبيب مرةً أخرى في الصباح، قال إن في إمكان أمي أن تخرج اليوم من المستشفى وتعود للمنزل إذا أردنا، كانت حالتها قد تحسنت بعض الشيء بالفعل، كنت في منتهى السعادة عندما طلبت مني شقيقتي النزول إلى الاستقبال لأتصل بأخي وأطلب منه إحضار ملابس جديدة لأمي حتى ترتديها لأنها ستخرج اليوم، فرح أخي بما سمعه وأخبرني أنه سيأتي على الفور، أنهيت المكالمة، صعدت درجات السلم وكل نبضة في عروقي تنبض بالراحة والسعادة والاطمئنان، وبحب الحياة، الحياة التي كانت جميلة في تلك اللحظات الخاطفة أكثر من أي وقت مضى، وظلت جميلة إلى أن عدت إلى غرفة أمي، ووجدتها قد تعبت مرةً أخرى. ملامح أختي متوترة، والممرضة تغير (المحلول) أو تفعل شيئًا ما، طلبنا منها إحضار الطبيب ولكن قبل أن تخرج وبعد مرور دقيقتين على الأكثر أراحت أمي رأسها على جانبها الأيمن وخرج من فمها السائل الأبيض و.. ماتت، ماتت أمام عيني.. هكذا.. بعد أن زالت من رأسي كل الهواجس والمخاوف.. في اللحظة التي اطمأننت فيها تمامًا وتيقنت أنها أصبحت بخير، ماتت هكذا وببساطة، لم أصدق، وكلما تذكرت تفاصيل اليوم واستعَدت ذكرياته لا أصدق، أختى تصرخ، أنا في حالة ذهول، الممرضة أخرجتنا من الغرفة، جاء الطبيب يجري، محاولات يائسة، لا فائدة، فلقد ماتت أمي وانتهى العالم في ذلك اليوم ولن يعود أبدًا كما كان..

( 6 )

كل شيء يولد صغيرًا ويكبر، إلا الحزن.. فإنه يولد كبيرًا ويصغر بمرور الأيام، هذا القول المأثور الشهير الذي لا أعلم يقينًا من قاله – وهو يُنسب للإمام الشافعي – لكني متأكد تمامًا من صحته لأني جربته بنفسي وعشته على أرض الواقع في يوم الثلاثاء 22 أغسطس 2006 عندما رحلت أمي.. وُلد الحزن كبيرًا في ذلك اليوم، كبيرًا لدرجة أنني أردت أن يشاركني فيه العالم كله، ويحزن معي.. كنت أشعر بالغضب والضيق والاستغراب طوال الطريق إلى المقابر وأنا أنظر إلى وجوه الناس في الشارع، وإلى السيارات التي تروح وتجيء، وأرى كل أشكال الحياة العادية التي تسير بوتيرتها الطبيعية وكأن شيئًا لم يحدث.. حتى الشمس اعتبرت وجودها مستفزًا وغريبًا في ذلك اليوم، فأنا أشعر بنهاية العالم، بل أعيشه الآن، فكيف للعالم أن يستمر بعد نهايته.. كان الدرس المهم الذي تعلمته في ذلك اليوم أن الحياة قاسية، بلا قلب أو مشاعر ولا تبالي بالموت، فإذا كان الموت يبتلع الحياة في كل لحظة، ففي نفس ذات اللحظة تقوم الحياة أيضًا بابتلاعه، وتستمر في طريقها بكامل عنفوانها وزينتها لتواصل صراعها الأبدي مع الموت، ذلك الصراع الغير محسوم والذي لا يخسر فيه أحد سوى الإنسان، ذلك المخلوق التعِس الذي يتملكه الغرور فيعتقد في نفسه أنه محور الكون والحياة، فيُصدم بأن الحياة لا تشاركه أحزانه الكبرى ولا يتوقف العالم من أجله مثلما اعتقد، بل يحدث العكس تمامًا، وأحزانه هي التي تنتهي وتتوقف وتصغر بمرور الزمن، وتعود الحياة لابتلاعه في دوامتها، لتنتصر عليه مرةً أخرى مثلما انتصر الموت.. كم هو بائسٌ ومسكين هذا الإنسان!

نرشح لك : محمد حمدي سلطان يكتب : 50 سنة حسام حسن