محمد عبده بدوي يكتب: اشتباك .. هواء ساخن ونافذة على مصير مجهول

قبل أن تشاهد فيلم اشتباك عليك أن تنحي قناعاتك جانبا بعض الشئ على باب السينما ، أن تتخلى مؤقتا عن انحيازاتك السياسية والفكرية المسبقه التي تحملها طوال الوقت في حياتك ، تتصارع من أجلها بلا هواده ، كي تثبت أن موقفك هو الحق ، وأن اختياراتك في الحياه هي الصحيحه ، لتسعين دقيقه فقط هي مدة الفيلم حاول أن تشاهده بعين وشوق انسان يتوق لحياة أفضل ليس أكثر ، كي تهدأ روحك قليلا في هذا العالم الهيستيري الذي نعيش فيه ، حاول أن تتخلص من تلك العبوات الأيدولوجية التي تعشش في رأسك ، والتي تحشوها يوما بعد يوم – دون أن تدري – بما يتفق مع ما تؤمن به فقط ، فلا ترى الا جانبا واحدا من الحقيقة.

الفن كان دائما قادرا على أن يصلح ما تفسده السياسة ، فيجعلك أكثر انسانية وتسامحا مع كل مختلف عنك ، هذا الفيلم سياعدك على أن تطمئن على انسانيتك ولو قليلا . .. فيلم ينتصر للانسان ومشاعره ، ولحظات ضعفه وخوفه ، ولا ينتصر لأي أفكار أو تحيزات سياسية.

… “اشتباك” هو الفيلم الروائي الثاني للمخرج المصري محمد دياب، وذلك بعد فيلمه “678”، الذي أخرجه عام 2010. وقد قام بكتابة سيناريو الفيلم بمساعدة شقيقه السيناريست خالد دياب، وهما من كتاب السيناريو البارزين في السنوات الأخيرة.

في المشهد الافتتاحي الأول نجد الكاميرا ثابته تنقل لنا صورة جامده لعربة الترحيلات من الداخل وهي فارغه ، يطول المشهد قليلا فتستشعر بهواء ساخن يتسلل اليك عبر الشاشة يلفح وجهك ، ويقلق حواسك ، فتبدأ التورط الجميل والقاسي في نفس الوقت مع أبطال الفيلم وحكاياتهم ، تضيق الصورة شيئا فشيئا ، لتعكس مساحة ضيقه وخانقه لأجساد تحشر تباعا ، فتمتليء عربة الترحيلات بمن تم القبض عليهم في هذا اليوم الصيفي الحار بعد عزل مرسي …

الصحفي المصري من أصل أمريكي وصديقه المصور / نجوى الممرضة وزوجها وطفلها حسام / منص البلطجي / الطفلة عائشه…. ووجوه أخرى تعكس شرائح مختلفه في مجتمعنا طبقيا وانتمائيا وسياسيا ، وكأن دياب يريد أن ينقل لنا صورة مصغرة لمصر داخل عربة الترحيلات ، في لحظة انقسام يعيشها المجتمع ، كل مجموعه تبحث عن خلاصها ونجاتها دون غيرها ، لكن لحظة الخطر التي يعيشونها هي التي توحدهم رغم اختلافهم ، فالألم الانساني واحد والمعاناة واحدة ، وأكبر معاناه يمكن أن يمر بها أي انسان هو سلب حريته وفقدها.

الاشتباك الأهم لصانعي الفيلم كان مع الفكرة وطريقة معالجتها دراميا ، فالفيلم ينتمي لنوعية الأفلام السياسية ، التي تواجه دائما تحديات في تلقيها من قبل المشاهد الذي يلجأ دوما للتفسير السياسي وليس الفني أو الانساني بالمعنى الأوسع لكل مشهد يتابعه ، – وهو بالمناسبة التفسير الأسهل –

هل سينحاز الفيلم للاخوان المعارضين ويبدي تعاطفا معهم ؟ أم سينحاز للمؤيدين وينتصر لموقفهم ؟ أم لضباط الشرطه والأمن المركزي ؟ كأننا نتحرك فقط في مساحات سياسية ضيقه لا نتجاوزها .
حاول دياب كلاعب سيرك ماهر أن يسير على الحبال ، ويطرح أفكاره بقدر كبير من التوازن ، الذي لا يُحسب عليه من جانب أي طرف من الأطراف ، فحاول التركيز على ما هو انساني حتى يتجنب السقوط في فخ المباشرة أو الخطابية وهي آفه تصيب كثيرا هذه النوعية من الأفلام ، الا أن دياب قد وقع من أحد الحبال حينما كانت تتحدث بعض الشخصيات بجمل مباشرة وتقريرية فيها قدر من المبالغة.

تبقى نافذة عربة الترحيلات برمزيتها هي الوسيلة الوحيدة لتواصل من بداخلها مع الخارج ، يطلقون صرخاتهم للعالم ، لعل هناك من يسمع أصواتهم ، يلفح وجوههم ووجوه المشاهدين هواء ساخن يزيد من معاناتهم … فقط هي النافذة الصغيره التي يطلون من خلالها على مصائرهم المجهوله ! ما بين متظاهرين شرفاء ومن يهتف يسقط الخونة والعملاء ، وعساكر طيبين لايملكون من أمرهم شيئا ينفذون الأوامر ، ومتشددين يشعلون النار في كل مكان.

مع توالي الأحداث نكتشف أن من في الخارج أيضا هو حبيس لعربة الترحيلات ، فلا أحد يعرف مصيره ، ولا أحد يملك الاجابه عما ينتظرهم .

في مشهد النهايه يتم فقد السيطره على عربة الترحيلات ، ينقسم من بداخلها الى فريق يدعو للتوجه الى أتباعهم من المتظاهرين ، لكي يكونوا في مأمن ، وفريق آخر يدعو لكسر الباب الخلفي والنزول ، تتشابك المصائر ويعلو الخوف والاضطراب الجميع ، فيسأل الطفل حسام ببراءة : رايحين على فين يابابا!

لم يقدم لنا صناع الفيلم اجابات جاهزة نرتاح اليها ، ولم يفضوا الاشتباك ، نخرج من الفيلم أكثر حيره ، تسقبلنا من جديد تحيزاتنا السياسية وتصنيفاتنا البليده والمكررة

ويبقى ما يحسب لحالة الاشتباك أن جعلتنا نطمئن على انسانيتنا ولو قليلا.

نرشح لك

محمد عبده بدوي يكتب: حزن مصري .. بين كنيستين

[ads1]

بنر الابلكيشن