محمد الباز يكتب: مندوبو وزارة الداخلية فى الصحافة (لماذا يكرهوننا 4)

انتهى الكاتب الصحفى الشاب من لملمة أوراقه استعداد لمغادرة مكتبه فى مجلته العريقة، وبعد دقائق عاد مسرعا، اكتشف أنه نسى بعض الأوراق المهمة، فتش عنها فى كل مكان، لم يجدها، فكر أن يسأل عنها زملاءه الموجودين، لكنه تراجع فى اللحظة الأخيرة، فما كان مكتوبا فى هذه الأوراق فضيحة كاملة الأركان.

لم تكن الأوراق التى وقعت فى يد زميله بالصدفة إلا تقارير تفصيلية عن كل ما يحدث فى المؤسسة، كتبها الصحفى الشاب بعناية شديدة، وكان يحرص على تصنيف زملاءه، فهذا مؤيد للنظام، وهذا معارض له، هذا يتحدث عن الرئيس بما لا يليق، وهذا انتهازى يمدح الرئيس علنا لكنه يكرهه ويسبه ويلعنه فى جلساته الخاصة، فلان الفلانى يرافق فلانة الفلانية، وعلان العلانى متزوج عرفيا من علانية العلانية.

لم يكن صعبا على الصحفى الشاب الذى وقعت الأوراق بين يديه أن يعرف أن هذه تقارير يكتبها زميله إلى الأجهزة الأمنية، التى كانت – ولا تزال – حريصة كل الحرص على معرفة كل صغيرة وكبيرة فى دور الصحف المصرية.

حاول الصحفى كاتب التقارير الأمنية بعد ذلك أن يبرر ما فعله، بأنه كان يكتب هذه المعلومات عن زملاءه، حتى يستخدمها بعد ذلك فى عمل روائى كبير عن المؤسسة… لم يصدقه أحد، وكانت النتيجة أن نبذه الجميع، بعد أن التصقت ب صفة ” الأمنجى”.

ستقول لى أن الصحافة لا تخلو من المخبرين، وقبل أن تبتسم ابتسامة النصر، سأقول لك، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن كل المهن الأخرى لا تخلو منهم، وكأنها فلسفة عامة ورثها الأمن المصرى من أجداده العسس فى العصر المملوكى، هذا العصر الذى أرادت فيه السلطة أن تجعل من المواطنين جميعا مخبرين على بعضهم البعض، فالابن يتجسس على أبيه، والمرأة تتجسس على زوجها، والأخ يشى بأخيه، وطالما أن هذا كله يحدث تحت مظلة خدمة الوطن، فما أجملنا.

فى المؤسسات الحكومية جميعها ودون استثناء ستجد من يتطوعون لينقلوا ما يدور إلى جهات الأمن، فى الجامعات ومدرجات الطلبة والأحزاب والمساجد والكنائس والمقاهى والمستشفيات ومراكز الأبحاث ومنظمات المجتمع المدنى والمحطات الفضائية وشركات رجال الأعمال الكبرى.

وعليه لا تتفاخر كثيرا بأن هناك صحفيين أمنجية يعملون عملاء للأمن… لأننا كلنا فى الهم أسرى لنظام أمنى يريد أن يخضع الجميع لإرادته، ويرغب فى وضع أنفه فى كل شق من شقوق البلد.

التركيز على الصحافة فى هذه المساحة تحديدا يأتى لأنها مهنة تصادر كثيرا من الضوء لصالحها، ما يفعله أبناؤها يشغل المجتمع الذى يصر على أن يرميهم بكل الآثام والخطايا.

لكن السؤال هو: من يقوم بإغراء من؟

هل الأمن هو الذى يغوى بعض الصحفيين ليكونوا من بين رجاله؟ أم أن بعض الصحفيين يقومون بإغواء رجال الأمن فيأنسوا إليهم، ويمدوا لهم حبال الود، فيجعلونهم على الحجر، ويساهمون فى ترقياتهم وصعودهم المهنى؟…  خاصة أن هناك عقيدة راسخة لدى أبناء الوسط الصحفى بأنه لا أحد يصعد فى هذه المهنة إلا إذا كان يقف على كتف الأمن.

الواقع يقول أن الإغواء متبادل.

فكما يسعى صحفيون للدخول غرفة خدم الأمن، يسعى الأمن ليجند عددا من الصحفيين، لا لينقلوا له ما يدور فى المؤسسات الصحفية فقط، ولكن ليكونوا لسانه الذى ينطق به، وعينه التى يرى بها، ويده التى يبطش من خلالها.

ولا يأتى التجنيد بالإغواء فقط، هناك ما هو أكثر جدوى.

لا يزال الوسط الصحفى يتداول قصة الصحفى الذى هاجم أجهزة الأمن هجوما شرسا، فما كان منهم إلا أن جاءوا به وعرضوا عليه تسجيلات بالصوت والصورة تدينه أخلاقيا، وكان المطلوب منه أن يصمت فقط، لكنه بالغ فى رد الفعل، فتحول من الهجوم الشديد إلى الدفاع المطلق.

يحلو لأجهزة الأمن فى كل العصور أن تنشر معلومات عما لديها عن صحفيين بعينهم، ويكون الغرض فى كل مرة أن يلموا أنفسهم، والمفاجأة أن كثيرين ممن لا يرتكبون ما يشينهم، ينفخون فى الزبادى، فهم لا يعرفون ما يتم تسجيله لهم على وجه التحديد، خاصة أننا جميعا نعانى من بطحات فى الرأس لا حصر لها ولا عدد… ولذلك يسلكون طريق السلامة.

بعد ثورة يناير واقتحام مبانى أمن الدولة ظهرت وثائق كثيرة – بعضها كانت مزورة بالمناسبة – تشى بأسماء عددا من الصحفيين عملوا مع أمن الدولة مقابل أجر، وكانت لهم أسماء كودية، وبها تحديد دقيق للمهام التى كانوا يقومون بها، وأقول بعضها مزور، لأن البعض الآخر لم يكن كذلك، ولا يمكن أن نعرف من بين هؤلاء من ذهبوا إلى الجهاز بالإغواء، ومن ذهب إلى هناك بالإخضاع.

وقد تسأل ببراءة أو حتى بدونها، فهذا من حقك: ما الذى يستفيده الصحفى عندما يجعل من خده مداسا للأمن؟

الفوائد كثيرة ما فى ذلك شك.

ففى المؤسسات الحكومية، من الصعب أن تحصل على منصب كبير، إذا كان الأمن غاضبا عليك، ثم من الصعب بعد ذلك أن تستمر فى هذا المنصب إلا لم تكن من أبناء الحظيرة الكبيرة.

لن أقول لك أن الصحفى الذى يضع نفسه فى خدمة الأمن يحصل على انفرادت خاصة طول الوقت، فهو موجود ليردد ما يقولونه فقط، أما الانفرادات والأوراق الثمينة فهى تذهب فى الغالب إلى كتاب بعينهم، يقدر الأمن لهم مكانتهم وقدرتهم على الوصول إلى قاعدة عريضة من القراء… لكن هذا لا يمنع أن يتمتع صحفيو الأمن ببعض الميزات، فهم يحصلون على المعلومات قبل غيرهم، وهى معلومات فى الغالب ملونة، لأنها تكون محملة بوجهة النظر الأمنية، لكنها فى النهاية معلومات والسلام.

من بين أشكال السخرية فى الوسط الصحفى، ما يتردد عن بعض الصحفيين الذين يغطون أنشطة وزارة الداخلية، حيث يقال أنهم مندوبو الداخلية فى الصحف، رغم أنهم يجب أن يكونوا مندوبين لصحفهم فى وزارة الداخلية.

هذه الصيغة تقال أحيانا فى بعض الوزارات خاصة الغنية منها، مثل وزارة الزراعة والإسكان والإعلام ( فيما سبق) والصحة والكهرباء، حيث يستطيع الصحفيون تحقيق مكاسب هائلة منها، لكن الأمر لا يقاس أبدا على ما يخص وزارة الداخلية.

وزارة الداخلية هى وزارة السطوة والقوة والنفوذ، تتورط كثيرا فى اشتباكات مع المجتمع، وتحتاج بالطبع إلى من يتحدث بلسانها ويتبنى وجهة نظرها، وعليه فهى تحرص على أن يكون ولاء من يتعاونون معها من الصحفيين كاملا، لا تشوبه شائبة، ولاتعكر صفوه كلمة نقد أو اعتراض.

بعض من يتعاملون مع وزارة الداخلية يضيقون بما يقال عنهم، يعتبرونه تهمة، وهو ما جعل البعض يتجرأ على بعض الصحفيين ويتهمونهم بأنهم مخبرون، لا لشئ إلا لأنهم يحصلون على معلومات لا يتصور أحد أن صحفى يمكن أن يحصل عليها بمجهوده الخاص، وفى حالات كثيرة تكون التهمة انعكاسا لعقدة عنوانها العجز، فأنت لا تستطيع أن تحصل على معلومات خاصة، فحتما من يحصل عليها يخدم الأمن، ولذلك يخصونه بها.

لكن السؤال هو: هل تعامل الصحفيين مع الأمن حرام كله؟

بالطبع لا… فأنت تجلس مستريح تماما تقلب فى قنوات التليفزيون بحثا عن معلومات حول ما يقع حولك من أحداث، هذه المعلومات جزء كبير منها عند رجال الأمن، ولو وقف الصحفى بعيدا عن الأجهزة الأمنية فلن يحصل لك عليها، لكنك وبعد أن تقرأ أو تسمع المعلومات من الصحفيين الذين حصلوا عليها من رجال الأمن، تركن ظهرك إلى الحائط، وتضع قدما على أخرى، وتقول بأريحية شديدة: دول كلهم ولاد كلب بتوع أمن.

هناك خيط رفيع جدا بين أن تتعاون مع أجهزة الأمن كصحفى مستقل، وأن تضع بيضك كله فى سلتهم فتصبح تابعا، تردد ما يقولون.

المعلومات ملك الأجهزة الأمنية، لكن المفروض أن يكون التحليل والتفسير ملك للصحفى وحده، وليس حراما بالمناسبة أن تتفق وجهة نظر الصحفى مع الأمن فى بعض القضايا، فالصحافة والأمن وخاصة فى أوقات الاضطراب السياسى ليسوا أعداءا وخصوما، ففى الغالب هناك مساحات اتفاق وتوافق كبيرة بينهما.

ما علاقة كل ما أقوله هنا بحديث ممتد عن كراهية الناس للصحفيين فى مصر الآن؟

هناك وجوه محددة يتحدث أصحابها ليس كصحفيين ولكن كرجال أمن.

بعضهم مقتنع تماما بما يقوله، ولا يمكن أن تزايد عليه، ولا يمكن أن تتهمه بأنه باع نفسه.

والبعض الآخر منتفع بما يفعله، هؤلاء تحديدا كانوا ولا يزالون سببا فى كراهية الناس للصحفيين، فلا يزال هناك من يتعامل مع الصحافة على أنها سنده، وعندما يرى من ينتمون إليها يميلون كل الميل إلى الأمن وما يفعله، ينظرون إليهم على أنهم باعوا أنفسهم إلى الشيطان شخصيا.

الغريب فى الأمر أن الصحفيين عندما وقفوا فى مواجهة وزارة الداخلية – بعد واقعة اقتحام النقابة أول مايو 2016 – تعرضوا لأكبر حملة كراهية فى السنوات الأخيرة، رغم أنهم توقعوا وقفة مجتمعية شاملة إلى جوارهم، وقد خانهم التوفيق فى التفكير، لأن هناك من يرى أن الأمن الآن مقدم على الحرية، ولأن المعركة كانت بين من يحمى الأمن ومن يبشر بالحرية، فقد خسرت الصحافة خسارة فادحة.

نرشح لك

محمد الباز يكتب: كلنا كلاب يا صديقى.. بعضنا ينبح وبعضنا يحرس (لماذا يكرهوننا 3)

محمد الباز يكتب: الدعاء على الصحفيين بالفضيحة ؟ (لماذا يكرهوننا 2)

محمد الباز يكتب: لماذا يكرهوننا ؟ (1)

بنر الابلكيشن