أحمد عمر يكتب: إنّ الذكرى تنفع الصحفيين

يتعرض العاملون حاليا في الصحافة- والإعلام بشكل عام- لكمٍّ يومي من الأحداث الكبيرة والقصص الإخبارية غير المُتوَقعة، ويُفترض بهذا كله أن يُصقل مهاراتهم وقدراتهم على تقييم المعلومات ومعرفة الغث من الثمين. فليس من المقبول، في ظل هذه الفرصة الرائعة لكل “صحفييّ الألفية” (Millennial Journalists) بفضل وسائل التقينة الحديثة والتواصل الصاروخي مع المصادر، أن يفقدوا القدرة على تقييم المعلومة الخبرية وتفنيدها على أسرع وجه دون الإخلال بمعايير المهنية وقواعد الإسناد المصدري لهذه المعلومة، بدلا من أن يبدو المشهد وكأن المعلومة وحيٌ هبط على مخيلة الصحفي القائم على التغطية.

فمن لا يتحرى الدقة فيما يكتبه أو ينقله من أي مصدر كان، فلا يلومنَ إلا نفسه، فقد أثبتت التجارب أن بعض المصادر “فِخاخٌ”. والفخ هنا لا أقصد به فقط أن يكتشف الصحفي أن المصدر شخصية مُسطحة أو أنه ثرثار أو حتى خبير لا يعرف كيف ينقل خبرته إلى المتلقي (المشاهد/ القارئ/ المستمع)، فيتحول الأمر إلى نوع من الترجمة التتابعية من قبل المذيع مثلا. الفخ أيضا أقصد به ذلك النوع من المصادر الذي ربما يكون منتسبا لأحد الأجهزة السيادية أو “مصدر مُطلع” في مؤسسة ما، لكنه ربما يريد “تسريب” معلومة بعينها لتحقيق مكاسب خاصة به، لذلك احذر من أن يستخدمك المصدر كأداة، وتسعد أنت في نهاية المطاف بـ”الانفراد”، فتكتشف بعد وقت أنه ليس سوى فخا!

****

حادثٌ مثل الطائرة “المفقودة” (استخدم هنا اللفظ المهني الصحيح؛ حيث إنه حتى كتابة سطور هذه المقالة لم يتم الإعلان رسميا عن مصيرها) القادمة من باريس في طريقها إلى القاهرة، ينبغي أن يكون مِثل سابقيه من الحوادث الكبرى؛ فرصة لتأسيس قاعدة مصادر متخصصة. فمن المؤسف أن أغلب المداخلات على الفضائيات المصرية استضافت أشخاصا تحدثت فقط بالمعلومات المتاحة، دون إضافة جديد، اللهم سوى خليط من الإفتاء أو إطلاق الفرضيّات غير المستندة لدلائل، باستثناء- طبعا- الظنون والتوجه السياسي!

إحدى القنوات المصرية استضافت مسؤولا في الجالية المصرية في اليونان. ثمة ملاحظتان على هذا الموقف: أولا المصدر هنا يبدو شخصا عاديا جدا، أي أنه ليس مسؤولا يونانيا حتى يتحدث عن خطط التعامل مع الحادث أو يكشف عن معلومة جديدة توصلت إليها السلطات اليونانية. ثانيا: ما علاقة المصريين في اليونان بهذه القضية، فالطائرة قادمة من العاصمة الفرنسية واختفت بعد تجاوزها للمياه الإقليمية اليونانية بنحو دقيقتين (بحسب التقارير الرسمية)، أي في المياه المصرية.

التفسير الوحيد لدي أن معد البرنامج عثر على رقم مصري في اليونان فقرر الاتصال به لمجرد أنه يعيش في أثينا! ويا للمفارقة أن ذلك حدث في قنوات أخرى، كانت تتصل بمصريين يعيشون في اليونان، حتى ولو كان المُتصَل به صحفي أو صحفية، إلا أن ذلك حدث أيضا دون إضافة حقيقية.

****

كعادة الأحداث الكبرى، تنجح وسائل إعلام، فيما ترسب أخرى، أو كما يقال “الصاعدون والهابطون”.

لم يفلح في الاختبار سوى القليل، “سي بي سي إكسترا” على سبيل المثال قدمت تغطية جيدة، وحاورت ذوي الشأن بقدر المستطاع، لكن قنوات أخرى عانت حقيقة من ضعف المصادر أو انعدامها.

على المستوى الإقليمي، قدمت قناة “سكاي نيوز عربية” تغطية ممتازة، وأتاحت مساحة كبيرة للغاية لتسليط الضوء على الحادثة، وفق خبراء ومختصين من أنحاء العالم. ولا يمكن إغفال أداء قنوات “سي إن إن” و”بي بي سي وورلد”، في الجزء الأخر من العالم!

أما المثال الصارخ على الهبوط، فكانت قناة الجزيرة؛ إذ لم تسع الجزيرة إلى انتهاج الموضوعية التي فقدتها منذ زمن، لكن في كل مرة يظن المرء أن الحال سينضبط قليلا لاسيما في الظروف الإنسانية التي لا تصح معها خلط الحابل بالنابل. لكن هيهات.

الجزيرة حاولت مرارا خلال التغطية ومع ضيوف كُثر، أن تلمِّح لفكرة أن سقوط الطائرة ناجم عن خلل فني مرده سوء إدارة داخل الشركة الحكومية والذي بدوره سيُعزى إلى النظام الحاكم، فالشيطان يكمن في هذه التفاصيل الدقيقة، حتى وإن تلحفت بـ”الموضوعية” المصطنعة، فقط لإثبات أن الدولة/ النظام يفشل في كل شئ، حتى في الأجواء العليا!

المثير أن الضيوف كانوا من المهنية بمكان أن تحولت آراؤهم إلى صفعة مهنية على وجه القناة نتيجة لمحاولة إقحام الموقف السياسي للقناة تجاه النظام المصري في مسألة فنية بحتة.. فبُهت الذي سأل بخبث.

***

للأسف.. نقص المعلومات وبطء الشفافية وقلة- إن لم يكن انعدام- التدريب والتأهيل للصحفيين ولاسيما من يعمل على الهواء (سواء كان موقع إلكتروني يجري تحديثه كل دقيقة أو محطة تلفزيونية تبث على الهواء فعليا)، كل ما سبق من بين عوامل عدة تدفع معظم وسائل الإعلام المصري للاجتهاد في مهنة باتت علما قائما على أسس ونظريات وآليات عمل واضحة لا تتحمل أي نوع من الاجتهاد، وكل وسيلة اجتهدت وفق إمكانياتها ومهنية العاملين فيها.

لا أود أن تتحول المقالة إلى تقريع للصحفيين، فلسنا- جميعنا- في معزل عن الخطأ، لكن المسألة في حقيقة الأمر تستدعي الاستفادة من هذه التجارب لتفادي السلبيات، وتطوير المهنة وفق المعطيات الحديثة.