محمد السيد الغريب يكتب: ديون الدم لا تُرد بالهاشتاج

المكان هو حى الأزبكية – مصر المحروسة ، الزمان هو شهر يونيو و الجو حار فعلاً لو أردت رأيى ، ليتاخذ كل شخص موقعه من فضلكم ، كبير المهندسين و انت يا جنرال جان باتيست تظاهر بأنك لا تعرف انك ستُقتل بعد لحظات ، و أنت يا سليمان اتخذ موقعك و اخف الخنجر جيداً ، تنكرك فى ثياب شحاذ مُحكَم تماماً ، الكل جاهز أيها السادة …. حسناً فلنبدأ !

كلاكيت : اغتيال الجنرال جان باتيست كليبر على يد سليمان ونس الحلبى … أول مرة .

هذا المشهد –الذى لا يوجد طفل فى مصر لا يحفظه- يُسمى الدفع  First payment  و هو الدفع المُقدم للدين فى إنتظار أن يرد الشخص المَدين ما عليه يوماً ما ، المبلغ المدفوع مُقدماً كان حياة سليمان الشاب السورى من مدينة عفرين التابعة لمحافظة حلب ، سليمان كان يعرف ان حماقته نهايتها الموت ، لكنه لم يهتم ، عمره كان أربعة و عشرين عاماً ، لم يتزوج فضلاً عن أن ينجب ، فضّل أن يحمى بيوت المصريين من ” الفرنسيس ” على أن يتخذ بيتاً و زوجة ينام فى حِضنها ملء جفنيه .

كما ورد فى تاريخ الجبرتى فإن سليمان حينما قدِم الى مصر من القدس كان ينوى مقاومة الفرنسيين ، زملاءه من الأزهريين كانوا يعرفون أنه ما أتى إلا لذلك و أن دراسته فى الأزهر الشريف هى الهدف الثانوى ، أى أنه لم يتورط فى المقاومة رغماً عنه و إنما سار إليها بشجاعة بطل أسطورى فى مأساة إغريقية ، مدينة حلب السورية لم تكن بخير حال حينما تركها سليمان و أتى إلى القاهرة ، الأحوال الإقتصادية و السياسية تحت الحكم العثمانى كانت قاسية بحق ، و على الرغم من ذلك لم يقل “خلينا فى حالنا ، هو احنا فاضيين ” لغيرنا ” ؟؟ احنا ف ايه و لا ف ايه ؟؟ ” سليمان كان مقتنعاً أنه لم يكن هناك “غيرنا ” .

حينما قُتل كليبر و تم القبض على سليمان عُقدت محكمة بقيادة رينيه ، الذى حكم على سليمان بحرق يمينه و خزوقته ، و أن لا يموت حتى يُشنق أمام عينيه زملاءه من الأزهريين الذين علموا بمخططه و لم يشو به الى الفرنسيين ، بعد مقتل كليبر أدرك الفرنسيون أن أيامهم فى مصر ستكون معدودة ، و أن المقاومة تستطيع أن تطال أى شخص ما دامت قد قصفت رأس الحملة شخصياً المصريون من أمامهم و الإنجليز من خلفهم  …. مينو أدرك ذلك …. نابليون أدرك ذلك ، و لم يمر عام كامل حتى استسلم الفرنسيون للإنجليز و خرجوا من مصر .

حلب …. مسقط رأس سليمان تتعرض للقصف منذ خمس سنوات ، و لكن أقساها كان الجمعة الماضية حينما قصفت قوات النظام السورى المدعومة سياسياً و تسليحاً بالنظام الروسى ، الوحدة الصحية للمدينة سُحقت ، آخر طبيب أطفال فى المدينة قُتل ، مع عشرات القتلى يومياً ، السؤال هنا …. ماذا فعلنا لإخواننا هناك ؟ حينما انبرى سليمان لقتل كليبر لم يحتج السوريون بأن “بلدك أولى !!” ، بعد قصف أمس كانت ردة الفعل عجيبة فعلاً ، البرامج الإعلامية فى مصر لم تكلف نفسها و تغير من برنامجها المُعد سلفاً و تذكر – مجرد الذكر – أن هناك من أطفال ماتوا فى حلب ، و أكملوا احتفالهم بأعياد الربيع ، النظام المصرى يدّعى تحالفه مع روسيا و مع ذلك لم نسمع ان هناك ضغطاً على روسيا لوقف القصف العشوائى ، هذا بالإضافة لعدم وجود أى دور لنا فى حل الأزمة السورية و لا حتى فى مفاوضتها طويلة الأمد شحيحة النتائج ، هذا على الصعيدين الإعلامى و الرسمى ، أما على المستوى الشعبى فإن الشباب قد اكتفوا بحملات على الفيسبوك و تويتر ، حملات معروف مقدماً أنها لن تسمن من جوع ، لأنها تفتقد للتحرك الرسمى من جهة و من جهة أخرى أن الفاجعة لم تكن فى باريس أو ستوكهولم أو لندن حتى يتحرك العالم باكياً من أجلها .

إن القضية التى دفع سليمان حياته ثمناً من أجلها لا تعترف بالحدود السياسية للبلاد و لم يرد فى قاموسها نقاط التفتيش الحدودية ، لكنها تعرف وجوه العرب و لا تؤمن الا بفرضية دفاعهم المشترك ، أن الدَيْن الذى حمّلنا إياه ابن حلب لا يمكن أن نرده بهاشتاج #حلب_تحترق أو Aleppo is burning   شقيقتك القابعة تحت الأنقاض فى سوريا لن تستفيد من اعلانك الحزن على شبكة إفتراضية ، أعرف أن كثيرين منا لا يملكون سوى إظهار شعورهم بالأسى و الدعاء لكم هذا وضع لا يجب أن يستمر ، ليس لأن هذا هو الشائع فيجب أن نعتاده ، يجب أن تتواجد آليات رسمية و أهلية لمساندة من سُحقت ديارهم و أحلامهم تحت البراميل المتفجرة  ، يجب أن نكف عن اختزال العالم فى شاشة لا تتجاوز مساحتها الخمس إنشات ، و أن نخرج من سجوننا الإفتراضية لنترجم شعورنا تجاه إخواننا إلى مساندة حقيقية …. مساندة حقيقية  !!

سليمان ينظر إليكم الآن من الجانب الآخر ، متوقعاً رداً للجميل ….. سدّدوا ديونكم أيها السادة …. فهذا ديدن الأحرار .