محمد السيد الغريب يكتب : عن التاريخ المرضى للمصريين !!

عندما تستمع إلى بيان الداخلية الخاص بتصفية عصابة “متخصصة” فى خطف الأجانب تورطت فى قتل “روجيني” ، ثم تطالع تعليق الصحف المحلية التى صفقت للشرطة المصرية على إثباتها أن العدالة يجب أن تأخذ مجراها و أنه لابد من يوم معلوم تترد فيه المظالم ، ثم تقارنها بردود أفعال الصحف الأوروبية التى فندت البيان كلمة كلمة و وضحت حجم الخلط و التضارب فيه ، ربما ستجد عندها الوقت الكافى – باعتبارك إنسان قادر على المقارنة و يمتلك قدراً من حسن الظن بالصحافة المحلية- لتتساءل لماذا أصبحنا سريعو الرضا إلى هذه الدرجة … سهل إقناعنا بأى شىء !!

حتى أن النقاط التى علّقت عليها الصحف الأجنبية و نشطاء مواقع التواصل الإجتماعى ليست عبقرية أو معقدة إلى هذا الحد ، ملاحظات حين تقرأها ستجدها منطقية جداً و بعيداً عن مناقشة تلك النقاط –التى ليست موضوع كلامنا بطبيعة الحال – لماذا نعتبر تصريحات الحكومة و أداء الحكومة قدراً مقدوراً يجب الرضا به و الصبر عليه  ! …. حتى عندما خرج المتحدث الرسمى بإسم وزارة الداخلية ليقول : أن العصابة المذكورة ليست مُدانة نهائياً بقتل روجيني  !!! بأى سبب نفسر إذن وجود متعلقات الطالب الإيطالى لدى هؤولاء ؟  هل قامت تلك العصابة بسرقته فحسب ثم قامت عصابة اخرى – سيتم تصفيتها فيما بعد – بقتله ؟  يبدو أن روجيني كان يتمتع بشعبية جارفة بين عصابات سرقة و خطف و قتل الأجانب !

أما بخلاف السياسة فالأمر لم يختلف كثيراً … هل أصبح الشعب المصرى ضئيل الطموح يقنع بأى شىء ؟

عندما خَبَت شعلة المسرح المصرى التى أضاءت يوماً مشاعل المسرح العربى ، ثم تبعتها السينما المصرية نحو ظلام سراديب الإنتاج المتربِّح ، ظهر أغلب الجمهور المصرى بأنه لا فارق لديه بين هذا و ذاك ، و بدا راضياً غير منتقدٍ لما يُقدم له من مستويات فنية متدنية فى المسرح و السينما على حد سواء ، قد يُستثنى من ذلك بعض الحالات النادرة للفن الحقيقى المقدم فى المسرح و السينما ، تلك الحالات نفسها التى – بعدما كانت الإختيار الأول لشعب يتمتع بذوق فنى رفيع- أصبحت أعمال غير مرغوبة و “متأكِّلش عيش” تُسمى بأفلام مهرجانات و مسـرح الظل !!

فأصبح مستوى الوسط المسرحى المصرى يسمح بأن يكون العمل الأشهر و الأكثر نجاحاً و شعبية هو (مسرح/تياترو) مصر , بسيانريوهات شبهة بدائية لا تحث إلا على الضحك و لا شىء سوا الضحك , بغض النظر عن خروج بطل العمل الفنان أشرف عبد الباقى مدافعاً عن تلاميذه من الشباب ” احنا عارفين اننا بنعمل حاجة لايت خفيفة كده و ليست مسرح بالمعنى المفهوم ” قد يكون مفهوماً هذا الدفاع عن ضعف المستوى كـ ” فكرة أو سكريبت ” ، لكن أن يكون هذا هو المسرح الأنجح أو الأوحد فى مصر , فإن هذا يجعلك تتساءل لماذا تدنّى سقف رضا الجمهور لهذا الحد !

حتى فيما يتعلق بالثقافة و مريديها من القرّاء … الفئة الوحيدة التى يكمن فيها الأمل بالحلم بغد مغاير لما نحن فيه ، أصبحت القراءة تجارة و بيزنس بين دور النشر و أصبحت متلازمة القارىء المراهق مسيطرة على كثير من الشباب هذه الأيام ، فالمراقب للأعمال المنشورة فى معرض الكتاب و الBest Sellers  يُصدم بتدنى مستواها و نجاح الأعمال اعتماداً على شهرة كاتبيها  و ليس على رقى مستواها الأدبى , مما يجعلنا نؤمن بمقولة الأديب علاء الأسوانى ” لن يصبح لدى مصر كتاباً كباراً إلا إذا أصبح لديها قرّاء كباراً ” ….. إذن المعضلة تكمن فى القارىء الذى يفضل الأعمال الأقل عمقاً  و تأثيراً الأقرب للسيناريو منها للرواية و يرضى بها لينضم إلى بقية عناصر الجتمع المصري التى أضحت ترضى بالأقل فى كل شىء .

من المنطقى نوعاً ما أن نتساءل متى بدأ كل هذا ؟ متى بدأ الشعب المصري كأشخاص “يرضى بالحال المايل ” و يتعامل معه كشىء طبيعى و مسلّم به ،  و كنوع من أنواع محاولات تحليل الشخصية المصرية على مدار التاريخ قد تفيدنا كتابات الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور خاصة كتابه “المجتمع المصرى فى عصر سلاطين المماليك” فى فهم تطور شخصية المصريين ، و الذى يصف فيه تبدل أحوال المجتمع المصرى و نظرته للأمور مستعينا بمصادر تاريخية مهمة مثل تأريخ المقريزى لتلك الفترة و كتابات القلقشندى و الرحالة الغربيين أمثال برنارد دى بريدنباخ  و فرسكو بالدى ، سيطر على آراء الدكتور عاشور ملاحظة رضا المصريين بظلم المماليك الجائر و التحكم بمصائر البلاد و العباد ، و الإستحواذ على ثروات الدولة بشكل مُجحف ، تفشّى الرشاوى أو “البراطيل ” وإنها تحكمت في ولاية المناصب كافة  “بحيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل ” ، و استشراء الشحاذين و المشردين فى بلد يغرق  مماليكها فى الثراء و الترف المبالغ فيه ، و كيف أن جهاز القضاء –أخطر أجهزة الدولة- قد طالهم سوء الحال كما طال غيرهم فيقول المؤرخ الدكتور عاشور عن ما يصفه المؤرخ ابن تغرى بردى “يبدو أن هذا التراخي جاء نتيجة طبيعية للجاه الذي أصبح فيه القضاة، وحياة الدعة والترف التي انتقلوا إليها، بعد أن غلبت شئون الدنيا على الدين، فساد التنافس والتحاسد بينهم، حتى أن المجالس السلطانية نفسها لم تخل من منازعات بين القضاة، تصل إلى درجة السباب والفحش في القول ” , تلك الملاحظات التى أوضحت مدى قدم الفساد و توابعه من سىء الأحوال و الأفعال و أنها ليست وليدة ثلاثين عاماً او ستين عاماً .

لكن أشد ما ينبّه عليه الدكتور سعيد عاشور ليس انتشار الفساد فى حد ذاته و إنما الرضا بوجوده و التعايش معه , و يبقى السؤال الأهم : هل ما نعانى منه الآن ما هو إلا مضاعفات لأمراض أُصيب بها جسد المجتمع المصرى منذ سنوات و سنوات و رضى بوجودها و تحمل آلامها بينما غفل المفكرون  و رجال الدين و الرأى عن وجودها أصلاً !  فضلاً عن محاولة علاجها و نزعها من أوردة و شرايين المجتمع ؟

لمتابعة الكاتب علي الفيس بوك من هنــا

اقـرأ أيـضـًا:

محمد السيد الغريب يكتب : قُمرة الشقيرى المليئة بالخواطِر !!

محمد السيد الغريب يكتب : لمن تقرأون ؟

محمد السيد الغريب يكتب : بين إسلام “البخاري” وإسلام “الورقة”

محمد السيد الغريب يكتب : المحتوى لا يُكال بالبتنجان

.

تابعونا علي الفيس بوك من هنا

تابعونا علي تويتر من هنا