محمد حسين
في بداية 2012 وجدت في بريدي رسالة من باحثة إيطالية تطلب إجراء حوار معي كمدوّن، باعتبار أن مدونتي “الكفتة توداي” هي من أهم 50 مدونة عربية (بحسب الباحثة). حسنا، بعد ثواني معدودة من الفخر والإحساس بالتقدير، استنتجت أن رصدها بالتأكيد خاطئ لأن مستوى التفاعل على مدونتي لا يضعها حتى ضمن أهم 50 مدونة في مربعي السكني.. عندما أفكر الآن في ذلك الآن، أجد أن الباحثة ربما كانت محقة في تصورها لأهميتي، وربما كانت مدونتي هي من ضمن آخر 50 مدونة تحتفظ بنشاطها في هذا الوقت؛ الحقيقة أن 2012 كان العام الآخير في عصر البلوجرز، لقد كانت تعاملني كإحدى الكائنات المهددة بالانقراض.
لقد بدأتُ في تأسيس أول بلوج لي قبلها بخمس سنوات، وبعد فترة طويلة من التصفح السلبي. لكن 2006 كان هو عام القمة بالنسبة للمدونات على مستوى العالم، في هذا العام كانت الدراسات تقدر عدد البلوجز عالميا بأكثر من 100 مليون (حسب موقع بلوج هيرالد)، وقتها كان فيسبوك مجرد نسخة مخصصة لطلبة المدارس الثانوية، وفي سبتمبر 2006 تم فتحه لأول مرة للجمهور.
من الناحية التقنية، كانت البلوجز ثورة في النشر الإلكتروني، لأنها تتيح لصاحب البلوج أشكال متطورة من النشر بدون الحاجة لخبرات فنية كبيرة، وقد ازدهرت في أجواء الغزو الأميركي للعراق في 2003، لكن النشأة كانت في الشهور السابقة لها وعلى خلفية التفاعل بين الناشطين المؤيدين والرافضين للحرب، حيث بدأ كل جانب في نشر مقالات عن الأمر.
بلوجرز هو جمع اسم الفاعل بلوجر، من مصدر الفعل بلوج ويمكن تصريفه في الماضي بلوجد، وبلوجينج في المضارع المستمر. لقد صار اللفظ رسميا في القواميس والموسوعات منذ 2004، وهو مشتق من دمج تعبير “Web Log” (أي سجل الشبكة)، وبمعنى أنه دفتر أحوال يومية للمستخدم، ثم كعادتهم كان للأصدقاء في الشام والخليج إضافاتهم المميزة بسبب انزعاجهم التاريخي من الجيم غير المعطشة، فأصبح مصدر الفعل لديهم هو: بلوغ.. أو بلوق.
كان 2006 هو العام الذهبي للتدوين في مصر، بستة آلاف بلوج ناشط تتنوع مقالاتهم بين كل وأي شيء، من السياسة والتسليح العسكري، إلى السينما والترجمة والقصص الإباحية ووصفات الطبخ وأشعار ركيكة تتسائل عن ماهية الكون. في هذا العام أسست “غادة عبد العال” بلوج “عايزة أتجوز” لتتحول مقالاته إلى كتاب أصدرته “دار الشروق” في 2008 ثم يتحول إلى مسلسل بعدها بعامين، وهي سنة حصول “وائل عباس” على جائزة موقع ضد الفساد عن طريق بلوج “الوعي المصري” الذي كشف عن طريقه فضيحة تعذيب “عماد الكبير”. 2006 كان العام الثاني لبلوج “بهية” الذي وصفه هيكل بأن مقالاته أهم من عشرات الكتاب والصحافيين، وفي نفس العام بدأ التحقيق مع البلوجر “كريم عامر” بتهمة إهانة الإسلام، ليتضامن معه مجتمع البلوجز وفي مقدمته موقع/بلوج “علاء ومنال”، وهو العام الذي انضمت فيه مصر لقائمة الدولة المعادية للإنترنت التي تصدرها مجموعة “مراسلون بلا حدود” العالمية.
كمحدث وسط شلة البلوجرز الشرسين، ظل بلوج “الكفتة توداي” خاملا حتى 2010 عندما بدأت في نشر بعض المقالات شخصية، وتعرضت سريعا لأول حالة سرقة من البلوج، وهو ما واجهته بسعادة وعدم تصديق لإنه لا أحد فعليا كان يهتم بتصفحه سوى الصديقين “أحمد العايدي” و”ميشيل حنا” (صاحب بلوج “مستنقعات الفحم” الذي أتم مؤخرا منشوره الـ500). عندما انفجرت الثورة، بدأت في النشر عبر البلوج بإيقاع شهري، وروجت له عبر فيسبوك، وأصبح لي أصدقاء بلوجرز، لكن في الحقيقة كان عالم البلوج في مصر قد انتهى بالفعل.
بعد العصر الذهبي الذي كان نضاليا بامتياز، اعتمد البلوج على جودة الكتابة نفسها، بلوجر كتابته عادية هو بلوجر فاشل أو ليس بلوجر على الإطلاق، لهذا كان نجوم المرحلة بلوجرز من عيار “نوارة نجم” (جبهة التهييس الشعبية)، “البراء أشرف” صاحب بلوج “وأنا مالي” الذي كانت آخر منشوراته في 2012 (صورة البراء الشخصية تمت سرقتها وتداولها مئات المرات وتم استخدامها في إعلان للتخسيس)، “محمود عزت” (كوبري إمبابة) الذي استمر في النشر حتى يناير 2013، والسكندري “هيثم الشاطر” (البنيكة)، مع الحاصل على لقب حكيم الجيل “أحمد جمال سعد الدين” (مجاز مُرسل). حتى الإسلاميين كان لديهم نجومهم، مثل المؤرخ “محمد إلهامي” صاحب المواجهات الدامية مع “عمرو عزت” (ما بدا لي)، وبالطبع.. بالطبع؛ “أحمد الدريني” (أقولها على طريقتي.. فالتدوين أفيون الشعوب).
من مناظير فردية، ليست هذه قصص حزينة على الإطلاق، فبخلاف “علاء عبد الفتاح” المسجون حاليا، معظم البلوجرز هجروا صفحاتهم بسبب إتاحة فرص أفضل للتعبير عن آرائهم الشخصية، نوارة جمعت بين البلوج ومقالات جريدة الدستور لفترة، ثم جريدة وقناة التحرير، قبل أن يخفت صوت الجبهة الشهبية تدريجيا (آخر منشور في يوليو 2014)، البراء هو الآن مخرج ومنتج معروف، الدريني نقل تجربته في التدوين لمقالات منتظمة على بوابة “المصري اليوم”، وقد شارك محمود عزت في تأليف فيلم “فيلّا 69″، بينما مضغ إلهامي إحباطه من ليونة التيار الإسلامي واستمر في النشر رغم صمت كوكب البلوجرز، وانتهت مواجهاته مع عمرو عزت الذي كانت آخر منشوراته قبل 30 يونيو بيومين.
من المفترض أن يدور المقال عن مستقبل البلوج، مصريا على الأقل، وأعتقد أنني أجبت على السؤال، مع تأخير العبارة الصادمة إلى النهاية: لقد انتهى البلوجرز بالفعل، فنيا بسبب المنافسة الشرسة مع فيسبوك الذي يقدم تجربة نشر أسهل وأسرع رغم كونها أقل ثراء، لكن السبب الأكبر هو أن جيل مؤسسي البلوجز ورواده التاليين وجدوا وسائل أفضل لهم، كما أن العالم الضيق الذي أتى بالبلوجز كثغرات للنشر، قد صار أضيق حتى من هذه الثغرات.
إذن ما الذي يجعلني متمسكا بالنشر المتقطع على البلوج الخاص بي حتى الآن؟ ربما لنفس أسباب انتهائه، لأن لا أحد يسمع صراخك وسط ضجيج فيسبوك، ولأني أحب الاحتفاظ بتاريخ صراخي في مكان جيد الترتيب. فيسبوك يشبه منافذ بيع الكتب في كارفور، بعناوين تجارية تعتمد على أحجام المبيعات وتوجيهات شركات التسويق، بينما البلوج هو دكان صغير في شارع جانبي بالفجالة القديمة، حيث كل الكتاب والقراء يعرفون بعضهم جيدا.