عمرو منير دهب يكتب: محمد الفيتوري.. الهوية الوطنية والهوية الشعرية

لم يكن الفيتوري مزدوج الهوية الوطنية فحسب، تشتّتاً بين نَسَبَين "رسميّين": سوداني أولاً ثم ليبي لاحقاً، وإنما كان متعدد الهويّات الوطنية على النطاق العربي بما شمل مصر التي نشأ فيها ودرس حتى بواكير الجامعة وعمل بعدها، وبما شمل المغرب الذي تزوّج منه وأقام فيه حتى رحيله؛ وبين مصر والمغرب ثمة لبنان بحكم تأثيره الثقافي وإقامته فيه، وفلسطين لمركزيّتها في المدّ القومي العربي الذي تزامن أوجُه مع أوج تألق شاعرنا، والعراق/بغداد وسوريا/دمشق اللذان لم يبارحا قلب الوجدان العربي منذ كان كلاهما مركزاً للحضارة العربية/الإسلامية؛ ومجملاً بما يشمل كل بقاع العالم العربي كما كان يؤكّد الشاعر الكبير باستمرار.

غير أن أبرز ما ميّز الفيتوري ظلّ على الأرجح تداخُل هويته العربية وهويته الإفريقية؛ وإذا كانت الأخيرة مربكة كونها تشير إلى انتماء جغرافي متباين الهويّات في ذاته فإن سحنة شاعرنا العملاق كانت كفيلة بالتأليف بين تلك الهويّات في انتماء جامع اُدغِم بدوره على نحو ما في الهوية الثقافية العربية التي كانت الأصل في تكوين الفيتوري ثقافياً بطبيعة الحال.

نرشح لك:عمرو منير دهب يكتب: طلال مدّاح.. خصوصية النخبوية الجماهيرية

ولعل العامل الأبرز لدى الفيتوري في الجمع بين الهوية العربية – على اتّساع ظلالها القومية حرفياً ومعنوياً كما رأينا – والهوية الإفريقية لم يكن منطلَقاً نفسياً بصفة عامة قدرَ ما كان إبداعياً شعريّاً على وجه التحديد؛ فالمنطلق النفسي مستقلّاً من شأنه أن يعمّق الصراع بين الانتماءين/الهويّتين، والأرجح أنه فعل؛ ومن هذا الصراع تشكّل ذلك الإبداع العظيم في مفارقة لا يسلم منها مبدع على اختلاف طرفَي المفارقة بحسب العوامل المؤثرة في تضاعيف التجربة الذاتية لأيٍّ من المبدعين.

بالعودة إلى الدلالة العملية للهوية، إشارةً إلى الانتماء الوطني/الرسمي، فإن الجمع بين هويّتين/جنسيّتين ليس وصمة بحال، لكنه كثيراً ما يُنظَر إليه على أنّه كذلك.

في نطاقنا العربي، وعلى غير ما قد تغري بالتقدير الوهلةُ الأولى، فإن التحدّي كثيراً ما يكون مضاعفاً عند الجمع بين هويّتين وطنيّتين عربيّتين قياساً إلى ما عليه الحال لدى الجمع بين هويّة وطنية عربية وأخرى من خارج المحيط العربي؛ وذلك بسبب التجاذبات الأشدّ حساسية عادةً بين الأقارب الأدنَين، تلك التجاذبات التي يفضي إليها التداخل العميق الذي لا مجال إلى تلافيه حتى في غضون فترات الانقطاع "الرسمي" للعلاقات، إنْ على الصعد العائلية/الاجتماعية أو فيما بين دولة وأيٍّ من جارتها في أي زمان ومكان.

الفيتوري أدار صراع هويّته بنجاح يتسنّى الوقوف عليه بوضوح لدى قراءة ما تمخّض عنه ذلك الصراع من إبداع شعري شكّل إحدى العلامات المائزة في تاريخ شعرنا الحديث؛ ذلك على الرغم مّما يمكن أن يكون قد اعتمل في وجدان الرجل من المشاعر المتأجّجة والجراحات الغائرة على خلفية صراع هويته؛ بل إن تألّق التجلّيات الأدبية لصراع الهوية لدى الفيتوري كان بسبب تلك المشاعر المتأججة والجراحات العميقة على الأرجح، فالإبداع يُولَد عادةً بتأثير نار مضطرمة حتى إذا كان يتشكّل بعدها على نار هادئة.

وفي ظلال كاريزما الفيتوري الأدبية الطاغية تناثرت شظايا معاركه الواقعية مع الذين ضاعفوا تحدّي اشتباك هويّاته العربية في أتون المفترقات السياسة الحادّة، فلم ترَ جماهيرُه من تلك الشظايا شيئاً يُذكَر، بل تقبّلته على تقلّبه بين وطن يغادره إلى انتماء رسمي لوطن آخر وعودته إلى الوطن الأول دون أن يُسقط انتماءه الثاني الذي بات هو الرسمي؛ كل ذلك وتلك الجماهير ليس في مخيّلتها سوى الفيتوري شاعراً لا مواطناً، أو لعلها تجاوزت مدلول المواطنة المختزل رسمياً في ورقة إلى معناه الأعمق المتغلغل بمحبة في وجدان الشاعر وجماهيره على حدّ سواء.

لأمرٍ ما، لا يقتصر على السحنة السمراء بقدر ما هو مرتبط أساساً ببدايات تشكّل الصيت الأدبي على الأرجح، ظل الفيتوري عالقاً في الوجدان الشعري العربي على خلفية سودانية غالبة، وكان ذلك من حظ السودان الحافل بالأصوات الإبداعية الفريدة وغير المحظوظ باختراق أغلب تلك الأصوات الآذانَ العربية لأسباب متشابكة يتحمّل تبعتها في المقام الأول ذلك البلد العريق لأسباب متشابكة بدورها.