شهاب بديوي
في أولى تجاربه الإخراجية، يقدّم كورد جيفرسون فيلمه «الخيال الأمريكي» (American Fiction)، الذي يروي قصة الكاتب والأستاذ الجامعي ثيلونيوس إليسون، المعروف بلقب “مونك”. ورغم أن أعماله نُشرت سابقًا، فإنه لم يحقق شهرة تُذكر، ويجد صعوبة في إقناع الناشرين بقبول روايته الأخيرة.

الحكاية: كاتب مغمور
في إحدى الندوات الثقافية التي يشارك فيها، يلاحظ “مونك” قلّة الحضور، ليكتشف أن ندوة مجاورة للكاتبة سينتارا غولدن تحظى بإقبال واسع، لأنها تكتب عن معاناة النساء السوداوات — تلك الحكايات التي يحب الجمهور الأبيض سماعها. ينزعج “مونك” من هذا النمط من الأدب الذي يعيد تدوير الصورة النمطية للسود، ويكرّس فكرة أن الكاتب الأسود لا يُقبل إلا إذا كتب عن الفقر والعنف والانحلال.
في لحظة إحباط وسخرية من الواقع، يقرر “مونك” كتابة رواية مزيفة تحاكي هذا النوع من الأدب الذي يسخر منه. يختار لها اسمًا مستعارًا، ويمنحها عنوانًا ساخرًا (“Fuck!”). لكن المفارقة أن الرواية تحقق نجاحًا مدويًا، ويتم بيعها بسهولة من خلال وكيله الأدبي، بل ويُعرض عليه عقد ضخم لنشرها. يجد “مونك” نفسه مضطرًا للقبول بعد وفاة شقيقته واحتياجه إلى المال لرعاية والدته المريضة. وهكذا يصبح جزءًا من اللعبة التي كان يسعى لفضحها.

في قلب هذه المفارقة يقف “مونك” ممزقًا بين ضميره ككاتبٍ يسعى إلى الصدق، وواقعه كإنسانٍ محاصر بالاحتياج. فهو لا يخضع فقط لضغط السوق، بل لضغط الحياة ذاتها. هذا الصراع الأخلاقي — بين أن تكتب ما تؤمن به أو تكتب ما يُباع — هو لبّ الفيلم، بل يمكن اعتباره مرآة لصراع أعمق يعيشه المثقف المعاصر الذي يجد نفسه مضطرًا إلى مسايرة ما يستهلكه الجمهور ليظل موجودًا.
صراع السوق
منذ الوهلة الأولى، يلفت الفيلم الأنظار إلى عالم الكتابة والنشر، وهو عالم نادر الحضور في السينما، لكنه مثير بطبيعته، لأنه يكشف العلاقة الملتبسة بين الإبداع والسوق. فالكتابة — باعتبارها فعلًا حرًّا أصيلًا — تخضع اليوم لقيودٍ تفرضها حسابات الناشرين وتطلعات الجمهور، حتى غدت الكتابة الجادة والنصوص العميقة تعاني التهميش في ظل سطوة السوق الذي لا يرى في الأدب سوى سلعةٍ قابلةٍ للبيع.
يكشف «الخيال الأمريكي» بجرأة عن أزمة النشر في عالمٍ تحكمه السوق لا القيم، حيث تتحول الكتب إلى منتجات تُباع بقدر ما تُرضي ذوق الجمهور الأبيض الباحث عن الإثارة الزائفة والدراما السطحية حول “الآخر”. فالعالم الأمريكي، كما يصوّره الفيلم، لا يريد من الكاتب الأسود أن يكتب موضوعات جادة أو أن يقدم صورة حقيقية عن مجتمعه، بل يريده أن يُكرّر ما اعتادوه: الفقر، العنف، التمييز، والحياة في الهامش، بوصفها العلامات التجارية “الأصيلة” التي تضمن النجاح التجاري.

بهذا المعنى، تصبح صناعة النشر شريكًا في تسطيح الآخر وتكريس صورته النمطية. فالكاتب الأسود لا يُعامل بوصفه ذاتًا تفكر وتحلم، بل ككائنٍ درامي يُستهلك لإشباع إحساس الغرب بالتفوق والتعاطف المزيّف. وهنا يتحول الأدب إلى مساحة لإعادة إنتاج التمييز، لا لمواجهته.
لا يتوقف الفيلم عند حدود نقد المؤسسة الأمريكية فحسب، بل يفتح بابًا أوسع للتأمل في علاقة الثقافة الحديثة بالسلطة. فالأمر لا يختلف كثيرًا في أماكن أخرى من العالم، حيث تتحوّل الفنون والكتب إلى منتجات تروَّج بنفس منطق الموضة الموسمية. صارت الانتاجات الثقافة تابعة للطلب، لا للوعي؛ تكتب لتُستهلك. وهنا تكمن المأساة الكبرى التي يشير إليها الفيلم ضمنيًا: أن السوق لا يشتري الحقيقة، بل يشتري نسختها القابلة للتداول.
الخيال الأمريكي =الخيال النمطي
يطرح الفيلم من خلال شخصية “مونك” نقدًا لاذعًا لمسألة تمثيل السود في الأدب والثقافة الشعبية الأمريكية، ويفكك التصوّرات النمطية التي تفرضها صناعة النشر. كما يقدّم سخرية مريرة من مفارقة أن القصص النمطية عن “المعاناة السوداء” أكثر قبولًا وربحية من القصص المعقّدة أو الإنسانية. ومن خلال ذلك يثير سؤالًا حادًّا حول معنى الهوية عندما تتحول إلى سلعة، وحين يصبح “الآخر” مضطرًا لتقديم نسخة نمطية من ذاته كي يُقبَل في السوق الثقافي.
فكرة قوية، وكتابة متواضعة
على المستوى الفني، يقدم كورد جيفرسون فيلمًا طموحًا من حيث الفكرة والبناء، لكن السيناريو يعاني في مواضع عدة من المباشرة الزائدة، إذ يلجأ إلى الخطابية في نقل الأفكار على حساب الدراما. ورغم امتلائه بالمفارقات الذكية والحقائق الواقعية، إلا أن حرص المخرج على التعبير الصريح عن الواقع أفقده أحيانًا حسّ العمق والتلميح الذي تحتاجه السينما لتصبح أكثر تأثيرًا.
كما تبدو بعض الشخصيات الجانبية مكتوبة بتساهل، بلا أبعاد كافية تجعلها قادرة على لمس المتفرج بصدق. ومع ذلك، فإن قوة الأطروحة الفكرية التي يقوم عليها العمل منحت الفيلم تماسُكًا وقدرة على إثارة الأسئلة الجوهرية حول علاقة الكاتب بواقعه وهويته ومؤسسته الثقافية.

العنوان ذاته يحمل طبقات من المفارقة؛ فالخيال الأمريكي، كما يصوّره جيفرسون، ليس خيالًا مبدعًا أو متجاوزًا، بل خيالًا تجاريًا يصنع صورًا وهمية عن الذات والآخر. إنه خيال الأمة التي صنعت أسطورتها على الورق ثم صدّقتها، لتتحول الأكاذيب المكرّرة عن "الحلم الأمريكي" إلى جزء من وعيها الجمعي. بهذا المعنى، يصبح الفيلم تفكيكًا لذلك الحلم، كاشفًا كيف يمكن للخيال أن يكون أداة للتزييف بقدر ما يمكن أن يكون وسيلة للتحرر.
ورغم التشتت الذي أصاب النهاية نتيجة تشعب الخطوط الدرامية، يظل «الخيال الأمريكي» عملًا جريئًا في فكرته ومخلصًا في طرحه، لأنه يضع أمامنا مرآة ساخرة للثقافة الأمريكية التي تُحوّل الأدب إلى سلعة، والهوية إلى علامة تجارية. فيلم يستحق المشاهدة والتأمل، لأنه لا ينتقد “الخيال الأمريكي” فحسب، بل يكشف زيف هذا الخيال حين يُختزل الإنسان في الصورة التي يرضى عنها السوق.
