عمرو منير دهب يكتب: هكذا تُصنع النجومية

النجومية صناعة معقّدة يشارك فيها المحيطون بـ"مشروع" النجم تماماً كما يشارك فيها النجم نفسه؛ ومنشأ التعقيد هو صعوبة عملية التنبّؤ بنجاح "المشروع" مهما تَبْدُ المؤشرات والعوامل المؤثرة وافرة ودقيقة. في الواقع، مكمن الصعوبة تحديداً هو التنبّؤ بدرجة النجاح، فالمقارنة ليست بين أن يكون "المشروع" نجماً أو لا يكون، وإنما هي بين درجات تلك النجومية المتفاوتة بشدّة، فضلاً عن "نوعيات" النجومية التي هي عرضة لتفاوتات لا تقلّ شدّة ومراوغة عند التقييم. وإذا كان التنبّؤ بالنجم أمراً بالغ الصعوبة، فإن ذلك يعني أن عمليات صناعة النجم المعقّدة غير مضمونة النتائج بدورها، خاصة عندما تكون الغاية هي أرفع مقامات النجومية وليست أي مستوى من الشهرة.

في بعض الحالات، وضمن أي مجال، تنشأ النجومية بضربة حظ؛ لكن ذلك لا يعني أنها ستمضي بنفس الوتيرة بتأثير "القصور الذاتي"، فاستمرار النجومية يقتضي عمليات معقدة غير مضمونة النتائج أيضاً، لا سيما ونحن نتحدّث عن مستويات النجومية الأرفع؛ ذلك رغم أن استمرار النجاح الساحق لكثير من نجوم الطبقة الأولى يبدو للجماهير كما لو كان أمراً مفروغاً منه، والواقع أن أولئك النجوم "المساكين" لا يعملون فقط ليل نهار لإبقاء ألقهم متوهِّجاً في السماء، بل يعيشون ما يشبه حالة هلع مستمر من فقدان مقامهم السماوي المبجّل في نفوس معجبيهم.

بعيداً عن عبقريته الفطرية التي أهّلته لما آل إليه من مقام فريد في بلاط مملكة الشعر الغنائي العربي وسمائها، شارك كثيرون في صناعة نجومية شوقي، وكان هو نفسه من أبرز أولئك المشاركين، بل ربما أبرزهم على الإطلاق.

"وأذكر كلمات البشري بنصّها. قال: أمّا يا باشا فيه جدع اسمه عبد الوهاب صوته زي الخصّ أحب إنك تسمعه. فقال: هاته يوماً إلى البيت؛ فجاء وحضر جمع قليل من أصدقاء شوقي، وغنّى عبد الوهاب، ففُتن به شوقي وحمله على ملازمته. وكان يحشد له في ليال جامعة سروات الناس ليقدّمه ويرفع من شأنه. وكان ينفق على تلك الليالي نفقات طائلة، يدعو فيها ثروت باشا ويحيى إبراهيم باشا ومحمد محمود باشا وأحمد عبد الغفار وحسين هيكل وإبراهيم الطاهري ونعمان الأعسر وحفني محمود وغيرهم من الوزراء والكبراء. ولم يكتف بذلك، بل كان ينشئ المقال وينظم الشعر ويدفعهما إلى من يحسن الإلقاء فيلقيهما على هؤلاء الكبراء في تلك الحفلات تنويهاً بصوت عبد الوهاب وتعظيماً لألحانه".

تلك لمحة من كتاب أحمد محفوظ عن حياة شوقي، لا نرى عبرها كيف صُنعت نجومية شوقي بل كيف صنع شوقي نجومية محمد عبد الوهاب؛ إذ بلغ أمير الشعراء في إعلاء شأن المطرب الصاعد حدوداً تجاوزت على الأرجح كل ما شارك به الآخرون في صناعة المطرب والموسيقي الذي ستبلغ نجوميتُه لاحقاً مبالغَ استثنائية في المجالين المصري والعربي. عبر تلك اللمحة، نرى صناعة مباشرة للنجومية، وإن تكن تلك الحالة مشوبة بخصوصية ارتباط عاطفي نادر الطراز من قِبل صانع النجومية أكثر مما هي من جانب الطامح إليها.

من المصدر ذاته، ولكن عن صناعة شوقي نجوميّتَه الشخصية هذه المرة، يقول محفوظ: "كان هذا الشاعر الفذّ الطائر الصوت يتعنى أشدّ العناء في الترويج لشعره. كان جاهلاً أن الصحيفة التي تحمل قصيدته تلقى من الرواج ما يجعلها تتهافت على هذا الشعر دون سعي منه، فقد كانت سوق الشعر نافقة في عهده. كان الطلبة في جميع مراحلهم الدراسية يتلقفون شعره المنشور في لهفة ورغبة، وكان الموظفون يتسابقون إلى قراءته، وكذلك كان يفعل غيرهم من طوائف الناس. كان اسمه يدوي، وكان شعره منية القلوب والعقول".

تلك لفتة بارعة من المؤلف، لكنها ليست دقيقة في كل تفاصيل تأمّلاتها بالضرورة، فشوقي لم يكن يجهل مكانته الشعرية ولا حظَّ قصائده من الرواج، بل كان بالغ الحرص، ليس فقط في ما يتعلّق بطَرْق كل الأبواب المفضية إلى ذيوع أشعاره وإنما في تقصّي كل السبل التي من شأنها أن تضمن له الخلود. لذلك فإنه لم يكن يستنكف – مثلاً - أن يلاحق أرباب الصحف للتأكّد من أن قصائده التي يدفع بها إليهم ستُنشَر على النحو اللائق بها؛ بل لا أظنني أبالغ إذا قلت إن عنايته الفائقة بمحمد عبد الوهاب – بالإضافة إلى محبّته الظاهرة للمطرب الواعد – كانت بدافع أن تخلد أشعارُه عبر صوت وألحان المطرب الفريد، وإن يكن ما حدث على الأرجح أن قصائد شوقي وعنايته الفائقة بالمطرب الصاعد كان لها من الفضل على عبد الوهاب أكثر مما كان لصوت عبد الوهاب وألحانه فضلٌ يُذكَر على ذيوع وخلود الأمير.

كان اهتمام شوقي البالغ بالمسرح وإنفاقه الباهظ على ممثلي مسرحياته - مما عرضنا له في مقام سابق - يصبّ أيضاً في هذا السياق، سياق الصناعة الذاتية للنجومية العابرة للأجيال بما يكفل الخلود؛ وبالفعل ضمنت تلك المسرحيات التفرّد لشوقي بالنظر إلى تاريخ الشعر العربي مسرحياً، بل ومستقبله؛ فحتى الآن لم يبلغ الشعر المسرحي العربي مدى تجاوز في وجدان الجماهير العربية ما بلغه شوقي؛ هذا برغم أن قدم شوقي الراسخة في الشعر العربي تركت أثرها عبر الشوقيات أكثر مما فعلت عبر مسرحياته الشعرية الرائدة.

في "أبي شوقي" يقول ابن الأمير: "في عام 1927 أعاد أبي طبع ديوانه الشوقيات، فأقيمت له بهذه المناسبة عدة حفلات تكريم اشترك فيها كثير من الأدباء والعظماء، كما حضر لها خصيصاً وفود من الأقطار الشقيقة. وأهم هذه الحفلات حفلة الأوبرا التي كانت تحت رعاية المغفور له الملك فؤاد ورئاسة سعد باشا الذي أناب عنه الأستاذ الجديلي بك في إلقاء كلمته لاعتكاف دولته". هذه إشارة غريبة إلى مهرجان تتويج شوقي أميراً على الشعراء، فابنه حسين يشير إلى أن "شرارة" الاحتفال انطلقت بإعادة طباعة ديوان شوقي، بل تحديداً بإعادة شوقي طباعة ديوانه بنفسه؛ ولتلك الإشارة ما وراءها، إذ تشي بأن لشوقي يداً في ترتيب ذلك الاحتفال؛ ولست هنا في معرض غمز الأمير أو لمزه، بل - على العكس – إنني في مقام الاحتفاء ببراعته في صنع نجوميّته، سواءٌ أصحّت ظنوني في ضبط شوقي متلبّساً بالإيعاز للاحتفال به وتتويجه أميراً على الشعراء أم لم تصحّ تلك الظنون.

وفي "اثني عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء" يشير المؤلف إلى قصة صورة التقِطت أول يونيو سنة 1926 يوم زفاف علي شوقي، تجمع الصورة أحمد شوقي وسعد زغلول ويظهر فيها شوقي كما لو كان تلميذاً يجلس فخوراً إلى جوار أستاذه الأسطوري، يقول أبو العز: "وأخذا (سعد وشوقي) يتحدثان، وفيما هما كذلك إذا بالأستاذ عبد الرحمن الجديلي يستأذنهما في أن يسمحا لبدر أفندي المصور بأخذ صورة، فابتسم سعد باشا ونظر إلى الفقيد (شوقي) فأجابه مبتسماً كذلك وقال: ولكني لا علم لي بذلك، فضحك سعد باشا ضحكة خفيفة. وبعد أن أُخِذت الصورة قال سعد باشا وهو يبتسم: لا شك أن هذا من عمل الجديلي، ثم قال الأستاذ الجديلي: هذه صورة الخالدين؛ فأشار دولة سعد باشا قائلاً: الخلود هنا؛ مشيراً لأمير الشعراء".

لا أصدّق الأميرَ تماماً حين قال بأنه لا علم له بقصة الصورة، وأحيّي الزعيم الأسطوري سعد زغلول الذي نظر إلى شوقي مبتسماً وكأنه يتّهمه بأنه من دبّر ذلك الأمر؛ وزغلول حين يقول بعد التقاط الصورة: لا شك أن هذا من عمل الجديلي، إنما يريد أن يرفع الحرج عن شوقي، ولا يعني ذلك بحال أنه صدّق أن أحمد شوقي بريء من "تهمة" الترتيب للصورة. ذلك كله يشير إلى أن شاعرنا العملاق لم يكن بالغ الانتباه إلى صناعة نجوميته فحسب وإنما حريصاً على التدخل في تفاصيل كتابة قصة خلوده، ولو عبر توريط زعيم أسطوري من طراز سعد زغلول في الجلوس من أجل صورة تذكارية يعلم أن الزعيم لن يكون متحمّساً أو حتى مرتاحاً لالتقاطها، لكن الصورة تعني الكثير في سياق صناعة نجوميته وخلوده (شوقي)، على الأقل بحسب ما كان يتبدّى له حينها؛ والمفارقة أن الزعيم الأسطوري كان في المقابل مستيقناً من أن الخلود سيكون من حظ "التلميذ" الذي يجلس في حياء (يشوبه الدهاء) إلى جواره؛ ذلك إذا كان لا مناص من أن ينفرد بالخلود أحدهما دون الآخر.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])