مهند خيري يكتب: ولنا في الخيال حب: لوحة فنية تتنفس بالحياة والحب

يبدأ الفيلم بمشهد افتتاحي ساحر، حيث تنفتح لنا غرفة نوح محملة بالرموز الفنية والجمالية. الديكور المستوحى من لوحة الليل المرصع بالنجوم لفان جوخ لا يقف مجرد تفصيل زخرفي، بل يعكس أيضاً طبيعة الشخصية ذاتها: إنسان يعيش في عالم من الخيال والجمال، منطو على أحلامه بعيدا عن الواقع المؤلم. هذا المشهد الافتتاحي يكشف على الفور عن اختيار سارة رزيق الدقيق لكل عنصر بصري، وعن فهمها العميق لأن الصورة في السينما لغة قائمة بذاتها، لا تقل أهمية عن الحوار.

من هذه اللحظة الأولى، يتضح أيضا طبيعة العلاقة المعقدة بين نوح ووردة، حيث نلمس في تفاعل الشخصيات عدم احترام متبادل، وسوء فهم متجذر في الطبائع المختلفة. وردة تعامله بوصفه صديقا، لا شريكا عاطفيا، مما يضع البذرة الأولى للدراما التي ستتطور لاحقا.

كدارس بأكاديمية الفنون، كانت سعادتي غامرة برؤية الأكاديمية تُعرض بهذه الصورة الراقية التي تليق بمكانتها، بدءا من معهد الباليه وصولا إلى معهد السينما. لقد سعدت حقا برؤية روح الحياة تدب مجددا في أروقة المعهد القديم.

استخدام المؤلفة والمخرجة سارة رزيق لمواقع أكاديمية الفنون لم يكن مجرد خيار إنتاجي، بل قرار درامي محسوب بعناية. هذا الاختيار المكاني يخدم البناء الدرامي بشكل عميق، بما يعكس الموضوع الأساسي للفيلم: الفن كملاذ، كمساحة للتعافي والتطهر الروحي.

التضاد الشخصي كمحرك درامي

إن اختلاف شخصيتي نوح ووردة قد خدم البناء الدرامي للفيلم بشكل حاسم. هي تعمل بجدية وحزم، محاكية الأسلوب الرجالي، ولها طريقتها الخاصة في الحب. بينما هو، العاطل عن العمل، يحمل طابعا طفوليا ومزاجيا في التعبير عن مشاعره. رغم أن شغفهما المشترك بالفن كان النقطة الجامعة، إلا أنه لم يكن كافيا لتأسيس علاقة مستقرة.

نوح شخصية حالمة بامتياز، آثر العيش في الوهم الذي نسجه لنفسه.

أما وردة، فقد اعتقدت أنها وجدت في الدكتور يوسف الحبيب، لكن التحليل العميق يكشف أنها أحبته في موقع الأب المفقود. إن افتقادها للجزء الأبوي - فيما يُسمى في جيلي بـ "دادي ايشوز" أو شعور بفقدان الأب - هو ما استنبطته من سلوكها، خاصة وأن دور الأب لم يظهر في حياة وردة طوال أحداث الفيلم. الأمر مشابه بالنسبة لنوح، لم يكن بوسع نوح ووردة أن يلتقيا على أرض صلبة إلا بعد أن اتفقا على فهم علاقتهما.

الدكتور يوسف، من جانبه، يحمل جرحا متشابها، فقد ألقاه في عتمة الانطواء والصمت. البقاء وحيدا لم يكن اختيارا، بل عقابا ذاتيا. وبدخول وردة ونوح إلى حياته، بدأت جدران السجن النفسي تتصدع.

سارة رزيق.. موهبة سينمائية صاعدة

سارة رزيق أظهرت براعة سينمائية تفوق ما يتوقعه المشاهد من مخرجة في تجربتها الأولى، وكأن هذا العمل هو خلاصة مشوار فني طويل، لا بدايته. كل لقطة محسوبة بدقة عالية، كل حركة كاميرا تخدم الموضوع، كل انتقال بين المشاهد يحمل معنى دراميا.

الموسيقى التصويرية لخالد حماد لا تقف مجرد مصاحبة للصورة، بل تندمج معها بشكل عضوي. الألحان الحزينة تتداخل مع اللقطات الجميلة، وكأن الفيلم يقول: الجمال والألم لا ينفصلان. هذا الدمج بين البصري والموسيقي يخلق تجربة وجدانية فريدة.

تستحق سارة رزيق تحيات خاصة وإعجاب حقيقي، لأنها أثبتت من خلال هذا العمل أنها ستكون من صناع السينما المميزين في السنوات القادمة. مهارتها امتدت إلى كل جوانب العمل: السيناريو الذي كتبته بعناية فائقة، وإن كان يحتاج لبعض الاختصارات في مواضع. الإخراج المتقن، اختيار الأماكن الموحية، توزيع الحياة على المشاهد، ترتيب الأحداث وتطور الشخصيات مما خلق كسب تعاطف الجمهور مع شخصية الدكتور يوسف وقصته المؤلمة، كذلك تجسيد العلاقة المعقدة بين نوح ووردة.

أحمد السعدني: داخل كهف الشخصية

شخصية الدكتور يوسف كانت بمثابة كهف عميق، لا يظهر جمالياته الحقيقية أو ضعفه الكامن إلا لمن يستطيع النفاذ إلى أعماقه. كان لديه شخصية داخلية تختلف عما يظهره للناس. لم يكن يمثل هذا التصلب الظاهري فقط في التعاملات الاجتماعية الخارجية، بل حتى في علاقته مع نفسه.

دخول وردة إلى منزله كان أسهل مئة مرة من اختراق جدران عقله. لكن مع الوقت، بدأت أفكار الدكتور يوسف تتناثر وتتضح تحت الضغط الدرامي. حين انكشف سره لوردة ثم لنوح ثم لصديقه الطبيب، بدأ يتحرر من قيود الصمت. وهذا يؤكد حقيقة مرعبة: الكتمان لم يكن حلا أبدا، بل كان سجنا.

عندما بدأ الدكتور يوسف يتحدث مع نوح، وعندما قام برحلة الاعتذار إلى أم زوجته، بدأ يسترجع ذاته الحقيقية. لم يعد رجلا متصلبا مصطنعا، بل إنسانا قويا بفعل الحب وليس بفعل القسوة. هذا التحول يذكرنا برجل فيلم Up بعد وفاة زوجته – لكن عكس الاتجاه، نحو الحياة وليس نحو الموت.

أتقن أحمد السعدني هذه الشخصية المعقدة بحرفية عالية، مثبتا مكانته وجدارته الفنية في عالم السينما. سيظل هذا الفيلم، في رأيي، محطة مهمة جدا في مسيرة السعدني الفنية.

عمر رزيق: بداية سينمائية واعدة

أثبت عمر رزيق – شقيق المخرجة وأول بطولة سينمائية له – كفاءته الحقيقية في تحمل مسؤولية البطولات السينمائية في سن مبكرة. اختيار سارة لشقيقها لم يكن مجرد اختيار عائلي، بل اختيار فني صحيح. عمر قدم نوح بحساسية وطفولية وحيرة متوازنة، دون المبالغة في أي منها. لا شك أن هذا الدور اللافت يمثل أفضل بداية سينمائية ممكنة لمشوار أي ممثل شاب.

لغة الصورة والمونتاج

في مشهد مشروع التخرج الخاص بنوح، تظهر براعة كل من محمد جاد (مدير التصوير) وأيمن منصور (المونتير). لقد أثبت كلاهما أن الدور الدرامي لكل من الصورة والمونتاج. الصورة لغة السينما التي تتحدثها بطلاقة. كل لقطة محسوبة، كل حركة كاميرا.. كل قطع مونتاجي في مكانه الدرامي الصحيح.

كل ذلك يقف خلفه اختيارات إنتاجية منحازة للفن لا تخطئها العين لشركة الإنتاج ريد ستار، والتي تجعلنا نتمنى من معظم الشركات العاملة في المجال السينمائي أن تملك شجاعتها في الاختيارات الفنية العالية والتي لا تغفل الجمهور في ذات الوقت، فالسينما في حقيقتها فن جماهيري وجمالي.

بعد سنوات من تراجع الأفلام الموسيقية المصرية، وبعد أن بدت هذه الأنواع الفنية في طريقها إلى الانقراض، جاء هذا الفيلم ليقول: لا تزال السينما الموسيقية المصرية حية. أحببت هذا العمل برغم أنني لم أكن يوما من المعجبين بهذا النوع من الأفلام الموسيقية. الفيلم الذي استلهم روح باليه كوبيليا وفيلم La La Land الحالمة والساحرة، ثم خلق منها عملا مصريا أصيلا.