"كان شوقي شاعر الوطنية الأول غير منكور ولا مدافع، فلم يسبق لشاعر مصري قبله أن احتفل بأحداث وطنه كما احتفل شوقي بهذه الأحداث، فأنت إذا أردت أن تؤرخ مصر في عصرها الحديث ثم أعوزتك المراجع التاريخية ولم تعثر على شيء منها ثم رجعت إلى ديوان شوقي لأغناك".
تلك لمحة بارعة، وربما جريئة، من أحمد محفوظ في "حياة شوقي"؛ فالأمير ظلّ موضع غمز ولمز في ظلال صورته المنمّطة على اعتباره ابن القصرالسراي وليس الشاعر الذي خرج من رحم الأمة؛ وقد عرضنا لذلك في أكثر من سياق. هنا محفوظ دقيق في تعبيره، فهو لا يصف شوقي بكونه "وطنيّاً" بل يشير إليه على أنه "شاعر الوطنية" الذي عبّر عن أحداث وطنه فشكّل بذلك مرجعاً لتاريخيه الحديث؛ وإن يكن محفوظ لا يغفل ذِكرَ ما أُخِذ على شوقي في هذا الباب بموضع آخر من كتابه، بالإضافة إلى ما أُخِذ على حافظ في الباب نفسه - في كتاب مستقل - رغم صورة شاعر النيل المنمّطة بوصفه ابن الشعب الأثير من بين شعراء عصره.
الوطنية والمواقف من المبادئ بصفة عامة ليست معياراً لقيمة الشاعر الفنية كما أشرنا مراراً، ولكن حتى على المستوى الأخلاقي الصرف تظل المسألة حمّالة تأويلات مختلفة ودلالات تصل إلى حدود التضاد بتغيّر المواقف والأزمان؛ وجدير بالانتباه أن المواقف المتغيِّرة ليست تلك المتعلّقة بالشاعر نفسه فحسب وإنما بالسلطة والأحزاب، بل وبالجماهير نفسها؛ فالجماهير لا تستجيب للأحداث والمواقف بصورة تلقائية صرفة بقدر ما تخضع لتأثير النخب على اختلافها بحسب رؤيتها/تقييمها/مصالحها تجاه الأحداث.
بمتابعة الاقتطاف عن محفوظ نرى أن شوقي بالفعل قد عبّر عن أحداث وطنه بقدر لافت من الدقّة والشمول: "ذكر الثورة (1919) وزعماءها وأبطالها وضحاياها وجماهير الشعب المساهمة فيها. وذكر ما أنتجته الثورة من استقلال وبرلمان وأحزاب، وذكر السودان وقضيته والقناة واحتلالها، وحث على الجلاء، وبكى الفرقة بين أبناء الوطن، ونوّه بيوم 13 نوفمبر يوم ذهب سعد وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي إلى المندوب السامي البريطاني يطلبون الاستقلال. ثم ذمّ الأحزاب في اختلافهم وتشتت أهوائهم ومختلف أطماعهم... لم يبخل على الوفد بالثناء ولا على حزب الأحرار الدستوريين بالإشادة بزعمائه. تألف سعد زغلول فمدحه... ورثى زعماء الحزب الوطني، ومرثيته في مصطفى كامل معروفة مشهودة، ورثى الزعيم محمد فريد وأمين الرافعي وعبد العزيز جاويش والدكتور أحمد فؤاد والصوفاني، ولم ينس المستقلين عن الأحزاب كثروت باشا وغيره ممن أبلوا في خدمة مصر. وفي همزيته التي نظمها في شبابه ذكر تاريخ مصر من عهد الفراعنة إلى العهد الحديث".
في المقابل يتطرّق المؤلف إلى مواقف شوقي التي لم تكن في صالحه من حيث الوفاء الواجب - أو على الأقل المرتقَب – تجاه السلطة التي أظلته بظلها، يقول: "كان شوقي شاعر الخديوي عباس حلمي الثاني وصفيّه ورسوله إلى راغبي حمل الألقاب الفخمة، ولا شك أنه كان أيضاً غرس نعمته ونعمة أبيه، ولكن الخوف من سوء المصير جعله يتنكر لمولاه، فقد نفض يده منه في منفاه في إسبانيا، وبعد رجوعه من المنفى لم أسمعه قط يذكره بخير رغم وثوقه من إخلاصي له وأني لن أستطيع أن أكون واشياً به عند السراي. وقد يُعذر شوقي إذا أمسك عن الجهر بذكر الخديوي، وقد يعذر أيضاً إذا امتدح فؤاداً وفاروقاً، وذلك لمصلحته ومصلحة أولاده خوفاً من بطش الملك فؤاد؛ ولكنه لا يعذر أبداً في إغفال فضل عباس الثاني عليه وهو جالس في خاصته وبين من لم ينم عليه، حتى أنه لما أراد طبع ديوانه نحى كل ما يتصل بعباس وبتوفيق عنه، ولم تظهر هذه المدائح إلا في السفر الرابع من الديوان، وقد نشرها بعد موته أولادُه".
بعدها يذكر المؤلف بعضاً من صور وفاء شوقي للخديوي وآله في شعره، وإن جاءت تلك الصور على استحياء، ثم يلتمس لشوقي العذر إذ يقول: "لا يسعنا إلا أن نلتمس له بعض العذر في استخفاء وفائه للخديوي، فإن ضعف أعصابه وقسوة ما لقيه في منفاه، كل هذا جعله غير مستطيع تضحية أخرى".
ذلك التأرجح فيما يتعلّق بالمواقف المبدئية وبالمعلَن من المشاعر لم يكن حكراً على أمير الشعراء بل مسَّ شاعرَ النيل أيضاً كما سلفت الإشارة؛ وهو أمر طال في الغالب شعراءَ العربية جميعاً في كل العصور بدرجة أو أخرى، بل إنه يطال الناسَ جميعاً باختلافات في الأشكال والدرجات يمليها التباينُ العريض بين طبقات بني آدم وما يتعرّضون له من تجارب ومواقف في كل زمان ومكان.
عن حافظ في سياق تأرجحٍ مماثل، نقلاً عن "حياة حافظ إبراهيم"، يقول أحمد محفوظ: "وقد قال حافظ في المدح قصائد كثيرة، أكثرها لا روح فيه ولا جمال، فالرجل معذور، فقد كان يرجو المنفعة لأنه فقير... ولكننا نظلمه إذا قلنا إن هذه الأبيات التي قالها في الإمام محمد عبده إنما هي أبيات قيلت والسلام لأن الشاعر أراد التقرب والزلفى... وفي مدحه البارودي نجد عاطفة صادقة هي عاطفة التلميذ للأستاذ... أما مدائحه في الخديوي والسلطان عبد الحميد والسلطان رشاد إنما هي مدائح مناسبات واجبة على الشعراء في ذلك العصر، كما كانت واجبة عليهم أيام الملك فؤاد وأيام ابنه فاروق، يوجبها النفاق الذي شمل الجميع ولف في طيلسانه الحكام والرعية. ولن نلتمس لشاعر الشعب كما شاء بعضهم أن يلقبه بهذا اللقب، ولن نلتمس لشاعر الوطنية كما لقبه بذلك اللواء، ولن نلتمس لشاعر الحزب الوطني كما لقبه بذلك اللواء أيضاً، ولن نلتمس لشاعر النيل كما لقبه بذلك علي يوسف، لن نلتمس له العذر يوم مدح إدوارد السابع في تتويجه سنة 1902".
أحسنَ محفوظ إذ أشار – وإن عرَضاً - إلى أن النفاق حينها "شمل الجميع ولف في طيلسانه الحكام والرعية"؛ فالطهر/التطهّر الأخلاقي ينشده ويزعمه كل الناس، ولكن الواقع أن الناس جميعاً يقترفون التجاوزات الأخلاقية بأشكال ودرجات متباينة، والمشاركون في الشأن العام أكثر عرضة للوقوع في تلك التجاوزات؛ فليس غريباً والحال كتلك أن يُضبط شاعرٌ متلبّساً بتجاوز أخلاقي من قبيل النفاق الذي هو في الموروث العربي/الإسلامي بمثابة أشهر التُّهم الموجّهة إلى الشعراء تحديداً: "وأنهم يقولون ما لا يفعلون".
بالعودة إلى أمير شعرائنا، وبصرف النظر عن الجدال الذي دار حول مواقفه الوطنية والذي انتهى على كل حال إلى ما يشبه المصالحة بينه وبين الوطن والجماهير في محيطه الأدنى بمصر والأقصى عربياً وإسلامياً وفي الشرق بصفة عامة، فإن الرجل يستحق أن يَدخل في زمرة ألقابه "شاعرُ الوطنية" لسببين: الأول دقته وشموله في التعبير عن قضايا الوطن عبر مختلف حقبه وتقلّباتها الحادّة، والثاني براعته الفنية منقطعة النظير - كالعادة – في شعره المتعلق بوطنه من كل الوجوه؛ وهذان سببان يجبّان حقيقة المشاعر الوطنية المعتملة في نفس الشاعر مهما تكن، إذا كان بالإمكان أصلاً الوقوف على كنه تلك المشاعر أو الاتفاق - ابتداءً - على المراد بـ"الحقيقة" في هذا السياق وذاك.