مهند خيري
يستهل الفيلم لغته البصرية بمشهد افتتاحي بارع التكوين، حيث تتصدر زجاجات البيرة مقدمة الكادر لتحجب خلفها "يحيى" جزئيا، في دلالة بصرية ذكية على ضبابية عالمه. يقطعه رنين الهاتف بمكالمة من رئيسه في العمل، يوبخه فيها بقسوة على خطأ فادح ارتكبه بخلط الأسماء في صفحة الوفيات. هذا الخطأ الصغير يصبح نقطة الانطلاق لسلسلة من الأحداث المصيرية التي ستغير مسار حياة البطل.
يتفاجأ يحيى باتصال هاتفي من الشخص الذي أعلن وفاته خطأ، ليقع تحت وطأة ذهول لم يتوقعه.
يحيي شخصية يمكن وصفها بأنها ما دون العادية. هو رجل لا يملك شيئا، ولا يحظى حتى بهوية نفسية متماسكة. لذا، لم تكن تلك المكالمة الغامضة بالنسبة له مجرد حدث عابر، بل بدت كأنها "المعجزة" المنتظرة التي ستنتشله من حضيض واقعه إلى عالم الأحلام؛ دعوة سماوية لا يملك ترف تجاهلها أو رفضها. إنه الإنسان المعاصر الذي ركن إلى يأسه وشعوره بالهزيمة من الحياة.
فيلم آخر المعجزات للمخرج عبد الوهاب شوقي يقتبس قصته من مجموعة نجيب محفوظ القصصية "خمارة القط الأسود" التي صدرت عام 1969، حيث أعاد المخرج تسمية القصة الأصلية "المعجزة" إلى "آخر المعجزات"، محملا إياها بدلالات جديدة تتجاوز النص الأدبي الأول. جاءت هذه المجموعة القصصية في فترة الستينيات مليئة بهموم المرحلة وتداعياتها، حيث تناول محفوظ فيها حالات اليأس التي اجتاحت المصريين، ما يجعل القصة الأصلية غنية بالأبعاد الفلسفية والنفسية
وعلى الرغم من قصر زمن الفيلم، إلا أنه ينجح في تفكيك قضايا شائكة تعجز عنها أفلام روائية طويلة. إنه يطرح بجرأة خطورة تأسيس الحياة على الأوهام والهواجس، كاشفا عن هشاشة النفس البشرية وضعفها أمام سطوة الرغبة في التحقق. "يحيى"، الذي اعتاد أن يهان يوميا ويسحق تحت وطأة الروتين، أراد بشدة أن يشعر ولو لمرة واحدة بأنه إنسان ذو قيمة، وأن لديه "شيئا لله" كما صور له خياله.
وهنا تتجلى عبثية الحياة في أقسى صورها التراجيدية؛ فالمغزى الأكثر إيلاما في هذه السردية هو أن تلك "المعجزة" التي شيد عليها البطل بنيان حياته الجديد وآماله العريضة، لم تكن في حقيقتها سوى "عبث سكارى" ومزحة ثقيلة لا معنى لها. وهنا ينتقد الفيلم الإنسان الذي ينتظر حلولا تهبط عليه من السماء بدلا من البحث عن الحلول في الأرض.
وفي رؤيتي النقدية للعمل، أرى أن الجرم الأكبر لا يقع على عاتق الأصدقاء السكارى ومزاحهم العبثي فحسب، بل إن "الشيخ" يمثل الكارثة الحقيقية. لقد ادعى هذا الرجل القدرة على المعرفة، وأوهم البطل بأنه "مختار" ومكشوف عنه الحجاب. فإذا كان السكارى قد زرعوا بذرة الوهم في نفس "يحيى" عن غير قصد، فإن الشيخ هو من قام بريها وتأكيدها، مغلفا الخديعة بغلاف من القداسة والبركة الزائفة.
جاء اختيار أماكن التصوير موفقا للغاية لخدمة هذا الطرح؛ حيث المزج الغرائبي بين الطقوس الأحمدية الصوفية، وخشونة الجبل، وصخب الحانة، وألفة القهوة، مما خلق مناخا بصريا يجمع بين المتناقضات التي تعتمل في صدر البطل. هذا التمازج البصري بين الماضي والحاضر، والروحانية والمادية، يعكس الصراع الداخلي للشخصية.
يحسب لعبد الوهاب شوقي قدرته الفذة على تكثيف القصة الأصلية للأديب العالمي نجيب محفوظ. لقد استطاع الحفاظ على الجوهر الفلسفي للنص الأدبي، مقدما معالجة سينمائية أمينة وذكية، دون أن يخل بروح الحكاية أو يعبث بمدلولاتها العميقة. يبقى أن اقول أن الفيلم يقدم نقدا شاعريا للإنسان الذي يضل عن القوة الكامنة داخله، ويقبل بأوهام الآخرين بدلا من صنع مصيره بيده.
نرشح لك: مهند خيري يكتب.. شكوى رقم 713317: مرآة الانكسار البارد في حياة زوجية معاصرة