مهند خيري
يُطل فيلم شكوى رقم ٧١٣٣١٧ من حيث لا نتوقع، من داخل الثلاجة، هذا الصندوق البارد الذي يتحول في لحظات إلى بؤرة الأحداث ورمزها. تبدأ اللقطة الافتتاحية بتناول مجدي للآيس كريم منها، ليعلن هذا الفعل البسيط عن ميلاد أزمة ستفجر ركودا صامتا في حياة البطلين، مُشعلة فتيل السرد الذي يدور حول هذا الجهاز المنزلي.
ينتقل بنا الفيلم بسرعة إلى عالم مكثف، في افتتاحية تنقل إلينا علاقات هشة ومبتورة. نرى مجدي وزوجته سما، أصحاب المنزل، الذين تتضح علاقتهم البعيدة بفلذة كبدهم. حضور الابن لعيد ميلاد والدته عبر "مكالمة فيديو" رغم وجوده "في البلد" يثير تساؤلات الحضور عن البلد الذي يعيش بها. هنا يأتي الرد اللاذع على لسان سما: "الشيخ زايد"، مُكثفا في كلمتين كل البعد الجغرافي والاجتماعي والنفسي بين الأجيال.
الثلاجة المعطلة: شرارة الأزمة
ينطلق الخط الرئيسي للفيلم مع عملية تنظيف للثلاجة تتحول إلى مأساة يقوم بها مجدي بمعاونة أحد الجيران، حيث يتم ثقب الثلاجة عن طريق الخطأ، مُسببا عطلاً كارثيا وقطع تيار الكهربائي في المنزل. المكالمة لمركز الصيانة، الشكوى رقم ٧١٣٣١٧، ليست مجرد طلب خدمة؛ بل هي تذكرة الدخول إلى رحلة مرهقة تُمثل في جوهرها بحث مجدي عن الإحساس بالكفاية واسترجاع كرامته الشخصية.
يتكشف الصراع العميق بين الزوجين حين تقترح سما استخدام مال نهاية خدمتها لشراء ثلاجة جديدة. يأتي رفض مجدي القاطع ليبرز إحساسه المهزوز بالرجولة والكفاءة؛ إذ يرى في شراء الزوجة لأي شيء يخص المنزل تهديداً لدوره وسيطرته.
الشخصيات الفرعية: شواهد على الهشاشة البيروقراطية والعاطفية
لم يقتصر الفيلم في رحلة تشريحه على الثلاجة وعلاقة الزوجين فحسب، بل اتسعت عدسته لتشمل شخصيات فرعية لعبت دور المرايا الكاشفة. يأتي في صدارتها إيهاب (محمد رضوان)، عامل الصيانة، الذي استحوذ على حيز كبير من السرد، إذ كان هو من يتولى مهمة الإصلاح في كل مرة باستثناء الأولى.
يمثل إيهاب نموذجا حيا للشخصية البيروقراطية المُخادعة، تلك الروح المنهكة التي تتفنن في نسج حكايات غير واقعية لنفسها، في محاولة يائسة للتصالح مع وضعها المعيشي القائم. يدعي أنه درس في أمريكا وتزوج من أمريكية وعمل لصالح الناتو ووزارة الدفاع على الغواصات، وأنه صمم ثلاجات من الصفر. والأهم من ذلك، أن إيهاب لم يكن مجرد عامل؛ فقد ألقى بملاحظة عابرة كانت بمثابة المفتاح لحقيقة علاقة سما ومجدي، حين أشار إلى أنهما ليسا قريبين بما فيه الكفاية. تعكس هذه الملاحظة الجريئة جانبا من وقاحة الشخصية، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن جوهر المشكلة الزوجية، مُسهمة دون قصد في دفع الزوجين نحو المواجهة.
أما صوت إنعام سالوسة، مديرة خدمة العملاء في الشركة، فيمثل بيروقراطية الاستهتار والتهرب من المسؤولية، حضوراً صوتيا لا يكل يُجسد غياب الإنسانية في أنظمتنا.
تقنية الموقع الواحد ومفارقات الحياة
من الجوانب الإخراجية المبهرة التي أضاءها الفيلم هو شعور المتعة الذي بثه في نفوس المشاهدين، بالرغم من اعتماده شبه الكلي على "الموقع الواحد" (One Location). يُعدّ الفيلم من أروع الأمثلة على الأعمال التي تدور في حيز مكاني محدود، حيث نجح في تحويل محدودية المكان إلى ثراء درامي. لقد استخدم مدير التصوير كريم فؤاد حكيم الكاميرا الثابتة بشكل أساسي، مع لقطات متوسطة وقريبة تبرز ملامح الشخصيات وتسمح للجمهور بقراءة الانفعالات الدقيقة التي لا تقال.
لقد كشفت تفصيلة بسيطة كعطل الثلاجة عن هشاشة شخصية مجدي ذاتها، وعن هشاشة علاقته بزوجته، فجرت معها سلسلة من الأحاسيس المتناقضة والمتدفقة: من الخوف من العجز، إلى الفرح بالانتصار، مروراً بالحزن على ما فات، وربما ومضات حب كامن أعادت الأزمة اكتشافها.
الانتصار المفقود وذروة التكسير
جاء الإحساس الأول بالانتصار لمجدي بعد شهور من المعاناة، حين نجح أخيرا في التواصل مع المحقق والشركة. لقد أتى فريق الصيانة وبدأوا بالفعل في إصلاح جميع أعطال الثلاجة بنجاح، وكان إصرار مجدي على إصلاح كل ما فيها هو تتويج لمعركته لاسترداد كرامته وحقه.
لكن ذروة الفيلم وأعمق لحظاته الرمزية كانت عندما كسر مجدي الثلاجة بيده. هذا الفعل التدميري يوضح بجلاء أن القضية لم تعد مجرد جهاز؛ بل تحولت إلى مناقشة قضية عامة أوسع: قضية فقدان الحقوق والاستغلال المستمر وغياب الضمير المهني. وكما أوضح الفيلم علاقات مجدي وسما، فقد أشار إلى هشاشة العلاقات الأخرى؛ حتى في مشهد كوميديا سوداء، حين كان الزوج الشكاك عزيز يبحث عن عائلته، اختبأ الأولاد داخل الثلاجة واختبأت الأم تحت الطاولة، في دلالة على أن هذا الصندوق البارد بات ملاذا آمنا من جنون العالم الخارجي.
المشاهد المؤسسة فنيا (الماستر سين)
فنيا، هناك مشاهد تبقى عالقة في الذاكرة، تُسمى بالماستر سين:
مشهد الرقص بلقطة واحدة (One Shot): اللقطة الواحدة التي ظهر فيها مجدي وسما وهما يرقصان، ثم انتقال مجدي للرقص مع الجارة مما أثار غيرة زوجته التي أغلقت الموسيقى، ليعيدها مجدي ويعودا للرقص معا. هذا المشهد، المنفذ ببراعة في لقطة متصلة، يكثف الصراع والغيرة والمصالحة العاطفية بين الزوجين.
مشهد تكسير الثلاجة: ذروة الغضب والرمزية، حيث تتكسر معها آخر بقايا الصبر والتسامح مع الواقع البيروقراطي الفاسد.
هذه المشاهد ليست مجرد لقطات درامية، بل هي نقاط تحول فنية وسردية تثبت مكانة الفيلم كعمل سينمائي يعتمد على قوة الصورة والإخراج المتقن.
الفراغ العاطفي وسرديات الصمت
تتوازى مع الخط الرئيسي رحلات فرعية تعكس صورة أوسع للمجتمع، كعلاقة عزيز، الزوج الشكاك والمتسلط، وزوجته العملية التي تسعى للاستقلال والعمل. لكن الأهم هو ما تكشفه رحلة تصليح الثلاجة عن حياة مجدي وسما؛ حياة هادئة وفارغة، لدرجة أن عطل هذا الجهاز يستحوذ على كامل اهتمامهما ويصبح محور حياتهما لأشهر. هذا التركيز المفرط دليل واضح على الملل الكامن والبعد العاطفي الذي خيم على علاقتهما.
كان هاجس مجدي خلال هذه الرحلة ليس إصلاح الثلاجة فحسب، بل أخذ حقه كاملا غير منقوص، وهو ما يُترجم صراعه الداخلي مع إحساسه بالخسارة العامة.
يعد الفيلم في جانب كبير منه انتصارا للغة الصورة ولغة الصمت. لقد اعتمد المخرج بشكل مكثف على الصمت لتكثيف المشاعر، جاعلا من ردود الأفعال الانفعالية للشخصيات، وحركات أجسادهم، ونظرات وجوههم، بدائل للسرد الحواري التقليدي. الثلاجة لم تكن مجرد آلة معطلة، بل أصبحت رمزا للعلاقة بين مجدي وسما؛ علاقة بحاجة ماسة إلى إصلاح، عاجزة عن حفظ الدفء، معلنة عن برودة قاتلة لا تخفيها إلا واجهة لامعة.
شهادة من جيل المستقبل: اعتراف بجودة الصناعة المصرية
يسعني كدارس للسينما أن أقدم شهادتي الخاصة تجاه هذا العمل تحديدا، وتجاه الأفلام المصرية التي تشارك في المحافل الدولية بشكل عام. إن هذا الفيلم، على غرار غيره من الأعمال المحلية المتميزة المعروضة في المهرجانات، يعد مشرِفا حقيقيا للصناعة السينمائية المصرية. بل إنني أزعم بأن شكوى رقم ٧١٣٣١٧ يتفوق في عمقه وتركيبه على الكثير من الأفلام الأجنبية التي حظيت بمشاهدتها.
يكمن جزء كبير من قوة الفيلم في بطليه، وعلى رأسهم الفنان الكبير محمود حميدة. يكفيه أنه نجم لا يمكن أن يختلف على موهبته اثنان. ورغم أن أداءه في هذا الفيلم كان أكثر من رائع، إلا أنني لم أشعر بالاندهاش، لأنه ببساطة حميدة المتألق كالمعتاد، الذي يحمل بظهوره ثقلا فنيا لا يضاهى. فهو حين يذهب ليمثل دورا له يترك محمود حميدة الممثل في البيت، كما لا يمكن إغفال براعة شيرين في تجسيد الدور الحساس والمعقد لسما.
لا يمكن كذلك إغفال الإشادة بالكتابة السلسة التي أسست لهذا العمل، ولا بالإخراج المبهر الذي قدمهما المخرج ياسر شفيعي. إن هذا العمل، وهو أول فيلم طويل له، يطرح تساؤلا فنيا هاما: كيف استطاع مخرج في فيلمه الأول أن يقود ممثلين بهذا الثقل، بمقام محمود حميدة وشيرين، وأن يقود موقع تصوير معقد في محدوديته ليخرج فيلما بهذا الجمال والإتقان؟
إن اختياره للكادرات غير المعتادة وتوجيهه البصري للقصة كان أكثر من رائع، مما يجعله إضافة واعدة للمشهد السينمائي. هذا الفيلم هو دليل على أن الصناعة المصرية لا تزال قادرة على تقديم أعمال ذات قيمة فنية عميقة، تستحق التقدير والمنافسة العالمية. ومع عرضه العالمي الأول في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بدورته الـ46، في مسابقة آفاق السينما العربية، يؤكد الفيلم أن هناك أصواتا جديدة تستحق الاستماع والمتابعة.