رأينا في "التفتيش في قلب شوقي" كم كان الرجل راسخ العقيدة عميق التديّن، وذلك بعيداً عن ممارسة الشعائر التي كان من شأنها أن تشير إلى نقيض ذلك لو حكمنا على الشاعر الكبير من خلال مدى انصياعه لها. وإذا كان رسوخ العقيدة وعمق التديّن مما تكنّه الصدور، فإن لسان الحال يفصح عن كثير من ذلك المكنون، ومن قبلُ لسان المقال.
فلتات اللسان شديدة الدلالة لدى علماء النفس الذين يذهبون في دلالاتها تلك أحياناً إلى آماد يراها البعض شديدة المغالاة؛ ولكن مهما يكن التفاوت في تقدير الدلالة النفسية لكلمة أو بضع كلمات تفلت من لسان أيٍّ من الناس، فإن الشعراء حالة خاصة في هذا النطاق، فالكلمات لا تفلت منهم إلى الهواء وإنما إلى دواوينهم التي يتلقّفها الناس ويحفظها التاريخ فتُعاد قراءتها وتحليلها عبر الزمان من كل الوجوه المحتملة بما يصل إلى محاكمتها في أزمنة لاحقة بمعايير لم تكن مفروضة حين فلتت الكلمات – عمداً أو سهواً – من لسان الشاعر، بل أحياناً تغدو المعايير متباينة إلى حدود التضاد بين الزمانين: حين قال الشاعر كلمته، وفي أوان قراءة نقدية لاحقة تزمع أن تصدر حكماً فتمجّد قولاً للشاعر كان قد ذمّه الناس من قبل أو تذمّ حديثاً له أفاض المعجبون في الإشادة به عند صدوره، وذلك على أيٍّ من النطاقين الفني أو الأخلاقي.
في كتابه "شوقي" يقول أنطون الجميّل: "على أن هذا الشاعر الراسخ العقيدة، الصادق الإيمان، لم يُسئ إلى أحد في عقيدته، لأن مبدأه كان: المسلم من سلم الناس من يده ولسانه. وهكذا ترون أدباء المسيحيين والإسرائيليين يتغنون بشعره الإسلامي ويطربون له طرب المسلمين أنفسهم؛ وقد يتناول أدق الموضوعات من هذا القبيل، ولكنه يتناولها بلمس الحرير فلا يؤلم ولا يجرح، كوصفه كنيسة آيا صوفيا التي صارت مسجداً... ووصفه مدينة القسطنطينية وقد خرجت من يد الروم إلى يد بني عثمان... وإذا وقع العيدان – عيد المسلمين و(عيد) المسيحيين – في يوم واحد حيّاهما معاً أجمل تحية... وإذا رأى اعتداءً من دولة من دول الصليب فإنه لا يثير الأحقاد الدينية القديمة بل يبرئ الدين وينحي باللائمة على الذين لا يتبعون وصاياه... أو يعاتب ألطف عتاب ويمهّد له أجمل تمهيد".
هذا كلام رائع وصحيح في حق شوقي، سواء بالنظر إلى الأمثلة التي أوردها أنطون مما هو مشهور من ديوان الشاعر العظيم أو في أضواء الذائع من سيرة الأمير بصفة عامة.
ولكن مهلاً، أليس شوقي هو القائل؟:
كَم قُبورٍ زَيَّنَت جيدَ الثَرى ** تَحتَها أَنجَسُ مِن مَيتِ المَجوس
كانَ مَن فيها وَإِن حازوا الثَرى ** قَبلَ مَوتِ الجِسمِ أَموات النُفوس
هذه ضربة من مستوى بالغ القسوة للسماحة الدينية من الواضح أن الأمير لم يكن يقصدها بوصفها إساءة عقائدية مباشرة بقدر ما ساقها لأن "القافية حكمت"، والمقصود بالقافية هنا المعنى الحرفي المباشر بالإضافة إلى الدلالة المعنوية غير المباشرة بالضرورة، فالنجاسة المعنوية يشار إليها في الموروث العربي/الإسلامي بالعديد من الاستعارات والإيحاءات اللفظية من بينها ما هو دالّ على ديانات وعقائد مخالفة مثل المجوسية التي اختارها شوقي في سياقها المذكور.
لن نهرع إلى محاكمة الأمير أخلاقياً في ضوء تمييزه الديني كما تفصح عنه إشارته أعلاه بالغة القسوة في حق المجوس، فالقوانين ضد التمييز الديني لم تكن معروفة حينها على نحو ما هي عليه الآن، والتسامح العقائدي يكاد يُرى محصوراً تلك الأيام - في المجتمعين الأبعد والأدنى للشاعر - بين الإسلام والمسيحية تحديداً؛ وعليه فإن أمير الشعراء مدّ يده/لسانه فتناول كلمة دارجة في التعبير عن النجاسة دون أن يقف على ما يمكن أن يكون في ذلك التناول من تمييز ديني فاضح ستعاقب عليه معظم القوانين بعد بضعة عقود؛ فهو في مثل هذه المواقف يبدو مدفوعاً على الأرجح بالمشاعر القومية/الدينية والبواعث السياسية الرائجة في محيطه وبما هو متواضع عليه بين الناس بدرجة أو أخرى من براءة الاعتقاد والترديد.
هذا مثال في النطاق الديني، أمّا الصعيد العرقي فالأمثلة على تجاوزات الأمير فيه واردة أيضاً وبوضوح، من قبيل:
أمينتي تحبو إلى الحولين ** وكلبها يناهز الشهرين
لكنها بيضاء مثل العاج ** وعبدها أسود كالدياجي
سأكتفي بالمثال أعلاه من القصيدة الطريفة التي يمازح فيها الأمير ابنته ذات الحولين؛ وإذا كانت الإشارة العرقية هنا في سياق ساخر لا يشير إلى استهجان عنصري واضح وفاضح، فإن إشارات أخرى في الشوقيات – إلى العبودية والسواد – ربما تجيء في سياقات أخرى مباشرة على نحو أوضح وأشدّ قسوة؛ ولكن أيضاً بما يمكن القول في شأنه بأنه على سبيل "القافية تحكم"، فشوقي لم يكن عرقياً إلا بقدر ما كانت تلك النزعة – ولا تزال - شائعة ومضمرة لدى غيره، لا يسوقها الأمير متعمّداً النكاية في العرق الأسود – على سبيل المثال – وإنما لدواعٍ بلاغية صرفة كالطباق البادي في المثال الذي أوردناه، وربما بدرجات أشدّ في اللمز بقدر أو آخر في مقامات أخرى، ولكن ليس بحال بما هو مقصود لذاته من المناوشات العرقية المباشرة والجارحة في الصميم على نحو ما كان يفعل أثيرُه – وأثيري - أبو الطيب المتنبي.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])