هبة السيسي تكتب: أسرار عظمة المتحف الكبير.. أهم مشروع ثقافي في القرن الواحد والعشرين

هبة السيسي

على أرض كمت الأصيلة، حيث وُلِد التاريخ وبُنيت الأهرامات لتصافح السماء، يقف صرحٌ ليس مجرد بناء، بل فلسفة ورمزية تتجسد في الحجر والضوء. إنه المتحف المصري الكبير (GEM)، الذي تستعد مصر لافتتاحه للعالم ليصبح ليس مجرد أكبر متحف أثري في العالم مخصص لحضارة واحدة، بل هو إعلان صريح عن قوة الحاضر وعودة مصر لِشد عودها، مؤكدةً أنها كانت وستظل دائمًا منارة الطريق الذي تسير عليه الإنسانية.

إن سر عظمة هذا الافتتاح يكمن في أنه يتجاوز كونه حدثًا أثريًا؛ إنه تاريخ لا يُستهان به، وحاضر لا يُنكَر أمام الجميع. فمصر، التي مرت بفترات قوة وضعف على مر العصور، تقف اليوم شامخة لتُرسل رسالتها الحضارية مجددًا: رسالة عن الخلود، والجمال، والعبقرية البشرية التي وُلدت على هذا التراب.

يأتي المتحف المصري الكبير ليحقق معادلة صعبة وفريدة: احترام التاريخ وامتلاك المستقبل. يتجلى هذا الهدف في التصميم المعماري المذهل الذي يحمل في بنائه وطريقة عرضه فلسفة عظيمة، ويسرد الأفكار بترتيب تصاعدي مذهل. من البداية، يبدو المبنى وكأنه يخرج من الصحراء ليعانق الأهرامات مباشرة.

التصميم، الذي تم اختياره بعناية فائقة، يوفر بانوراما بصرية مباشرة للأهرامات من جميع قاعاته الرئيسية، ليربط الزائر بصريًا وفكريًا بين المتحف ومصدر الآثار. الواجهة الزجاجية الضخمة، والدرج العظيم الذي يستقبل الزوار، والتنظيم المكاني الذي يتخذ شكل المثلثات المستوحاة من الأهرامات نفسها، كلها عناصر تؤكد أن المبنى هو جسد حديث لروح تاريخية قديمة. هذا الإنجاز المعماري هو رمز لمصر التي تتقدم بخطوات واثقة، مزودة بأحدث تقنيات العرض والترميم الرقمي، لتجذب الأجيال الجديدة.

الأسرار الكبرى وراء عظمة المتحف:

السر الأول : أكبر وأهم متحف بالعالم

تخيل أن المتاحف العالمية تكتسب شهرتها من بعض القطع المصرية المعروضة لديها، لكن المتحف المصري الكبير يجمع كنوز مصر على أرضها، وكلها في مكان واحد. هذا أكبر دليل على أن مصر بها مخزون أثري ضخم، تم عرضه بطريقة وبفلسفة تعبر عن ترتيب العصور في مصر القديمة. حتى الدرج العظيم يعرض بترتيب تصاعدي مذهل: تبدأ الرحلة بعظمة الملوك وكيف حكموا بإيعاز من الكهنة، ثم وصولهم لكونهم آلهة على الأرض، ثم ننتقل إلى الموت والدفن والتوابيت، لينتهي المشهد بـ"فيو" رائع وعظيم على الأهرامات، المقابر الملكية الضخمة.

السر الثاني : مجموعة توت عنخ آمون الكاملة

إن السر الأول والأهم يكمن في احتضان المتحف لـ مجموعة الملك الذهبي توت عنخ آمون كاملة لأول مرة في التاريخ، تعرض معًا في مكان واحد مخصص لها. إنها لحظة ينتظرها العالم كله: رؤية أكثر من 5000 قطعة أثرية تحكي قصة ملك شاب، وفي الوقت ذاته، تحكي قصة حضارة آمنت بالخلود فصنعته بيديها. هذه المجموعة ليست مجرد آثار، بل هي دليل مادي على تفرد الفن المصري القديم ومهارته التي لا تُضاهى.

السر الثالث: مراكب خوفو.. فلسفة رحلة الإنسان

داخل المتحف، يستقر متحف مراكب خوفو، ويسرد القصة من المدخل بالكتل الحجرية المعرضة ومحاكاة لاماكن العصور على المراكب ثم عرض مركبتان في مكان واحد، إحداهما بطول حوالي 43 مترًا والأخرى في مراحل الترميم. وتعد من أقدم وأهم الآثار العضوية في التاريخ البشري، لكنهما تحملان وراءهما فلسفة عميقة عن حياة الإنسان وعقيدة البعث.

المراكب الشمسية: ترمز إلى رحلة الملك مع الإله "رع" (إله الشمس)، حيث تبحر المركبة في 12 ساعة من الليل، ليعود قرص الشمس مرة أخرى في 12 ساعة من النهار. إنها تمثل دورة الحياة والبعث الأبدية، كما ذُكرت في أول كتاب ديني في التاريخ: كتاب الموتى إن عرضها كاملاً يفتح نافذة للزائر لفهم كيفية دمج المصري القديم للكون والعقيدة في تفاصيل حياته اليومية. وتستطيع مشاهدة عمليات الترميم وإعادة التركيب، كجزء من العرض المتحفي التفاعلي أمام الزوار.

السر الرابع: الثواليث المقدسة.. رمز القوة والخير

يوجد بالمتحف العديد من تماثيل الثواليث المقدسة بالدولة القديمة والوسطى والحديثة وترتقى فكرة الثالوث الى الوحدة ويحمل المعنى فلسفة حياتية توارثناها عبر التاريخ وبدأت من الحضارة المصرية القديم. هذه الفكرة لا تختزل في آلهة أو تماثيل بعينها، جورس واوزوريس ورع بل هي مفهوم رمزي متطور عبر التاريخ، يمثل جوهر الفضائل التي قامت عليها الحضارة: الحب، الخير، النماء، والقوة، والوحدة والتضامن هذه المبادئ هي أساس كل ما قام عليه التاريخ المصري، وتطورت بتطور الأزمان، لتظل رسالة خالدة عن وحدة الأسرة وعمق الروابط.

السر الخامس: مفتاح الحياة (عنخ).. ميلاد أبدي

الركيزة الفكرية لمعظم المعتقدات القديمة تكمن في مفتاح الحياة (عنخ)، رمز الميلاد والخلود والأبدية. هذا الرمز، الذي ما زال موجودًا ومتطورًا في الفنون والذاكرة الشعبية حتى اليوم، يمثل جوهر الفكرة المصرية عن تجاوز الموت والانتقال إلى حياة دائمة وغيرها من الرموز التى تمثل حياتنا مثل عين حورس التي ترمز للحماية والقوة الشافية والمعرفة. هذه الرمزية لم تنتهِ بانتهاء العصر الفرعوني، بل انتقلت لتُصبح جزءًا من الموروثات الشعبية في معظم الحضارات، لتؤكد أن الإلهام المصري هو مصدر لا ينضب للعالم أجمع.

مصر القديمة.. مصدر قوة العالم حتى الآن

إن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مخزن للآثار؛ إنه مركز للطاقة الحضارية. إنه يذكر العالم كله بأن الحضارة المصرية القديمة كانت ولا تزال المنبع الأساسي للفلسفة والرمزية والإيمان التي قامت عليها معظم الحضارات اللاحقة. فكرة الثالوث، رمز مفتاح الحياة (عنخ)، وعين حورس الواقية، كلها تحولت لتصبح جزءاً من موروثاتنا الثقافية والإنسانية العالمية.

في لحظة الافتتاح العالمية هذه، لا تعرض مصر قطعاً أثرية فحسب، بل تعرض فلسفة حياة متكاملة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. المتحف الكبير هو تتويج لهذه الرسالة: أن القوة الحقيقية تكمن في استلهام الماضي لبناء مستقبل عظيم. إنه دعوة مفتوحة لكل إنسان لاستكشاف سر الخلود والعبقرية الذي لم يمت، بل يقف اليوم على أعتاب الأهرامات، يهمس للعالم بأن مصر هي روح العالم القديم، وقلب المستقبل النابض.

نرشح لك: عمرو أديب يكشف تفاصيل احتفالية افتتاح المتحف المصري الكبير