ما يلي يبدو قاسياً وغريباً في حق الأمير، لكننا سنورده لسببين: الأول أن الغرض الأساس لقراءة سيرة الأمير وتأمّل شعره هو الفائدة والمتعة الفنية لا التمجيد مطلقاً، والثاني أن مكانة الأمير الرفيعة من حيث القيمة الفنية والتأثير الأدبي لا تنال منها طِباعُه مهما تكن غريبة؛ وقد أشرنا في أكثر من سياق في مقامات متعددة ومتباينة ما مفاده أننا لا نضع فحسب على وجوهنا أقنعة حين نتعامل مع الآخرين بل نرتدي شخصيات – لا شخصية واحدة فحسب – تناسب ما يتوقّعه الآخرون منّا في هذا المقام وذاك بناءً على ما تواضع الناس عليه من قِيَم وأنماط سلوك. بهذا في الاعتبار، ليس شوقي وحده، وإنما نحن جميعاً سنُضبَط متلبّسين بارتداء شخصيّات لا تمتّ إلى ما نخفيه من حقيقة شخصيتنا بصلة؛ وأوشك أن أقول بأننا في الواقع نملك أكثر من شخصية "حقيقية" سيتفاجأ بكل منها الآخرون إذا أمكنهم النفاذ إليها عبر ما نطلّ به عليهم من شخصياتنا المنمّقة.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الشخصية متعددة الأبعاد والصورة المسطحة
حتى إذا تضمّن كلامُه بعض المبالغة، لا أظن أن أحمد محفوظ كان مجانباً الواقعَ بقدر كبير حين قال في "حياة شوقي" تحت عنوان "كان يكره الصحافة الصفراء ويخافها"، واصفاً سلوك الأمير تجاه النقد اللاذع تحديداً: "كان يجزع من النقد جزعاً شديداً ويخاف هذه الصحف الصفراء التي كانت تُطبع في زمانه، وليس فيها إلا التجريح والتشهير، وكانت سوقها نافقة في ذلك العهد لخوف الناس من هتك أعراضهم؛ فكان يغدق على أصحابها الأموال الجليلة ولا يلقاهم إلا بالتكرمة وخلع الألقاب الضخمة عليهم. وكان خوفه منهم منصرفاً إلى شعره، فقد كان لا يطيق أن يقرأ سطراً واحداً في الحطّ منه. كان شعره عِرضه عند هؤلاء، وكانوا يعلمون ذلك عنه، فإذا أنسوا من قبضاً عن العطاء غمزوا شعره، فهرول إليهم مسترضياً باذلاً ماله، وكان هذا سبيلهم إلى سلبه. وقد غضب عليّ مرة غضباً شديداً لأني كنت قد قرأت في إحدى هذه الصحف الساقطة نقداً لشعره فأنهيته إليه بغير قصد إلا التنبيه، فثار وصاح في وجهي: يا أخي هو لازم تبلغني شتيمتي، أنا ما أقراش الصحف الساقطة دي. ولم يكن صادقاً، فقد كان حريصاً على قراءة هذه الصحف، ودليلي أنه أرسل إلى صاحب هذه الصحيفة في اليوم التالي لنشره النقد وأعطاه وخلع عليه أضخم الألقاب كعادته".
تعبير محفوظ "كان شعره عِرضه عند هؤلاء" بالغ الدقة والروعة في تصوير دوافع وحال شوقي إزاء تناول شعره بسوء؛ وهي حال تبدو غريبة بالنظر إلى قيمة شعره وإدراكه هو جيداً لتلك القيمة، ولكن استجابات الأمير على هذا الصعيد مفهومة تماماً لسببين: الأول أن تلك نزعة نفسية وليست منطقية/عقلانية ابتداءً، فهو لم يكن يطيق "عاطفياً" أن ينال أحد من شعره الذي يراه حقيقاً بأن يتجاوز كلَّ أشعار السابقين والمعاصرين؛ أمّا السبب الثاني فلا يخلو من المنطق/العقلانية، ذلك أنه يعلم أن قيمة شعره من الوجهة الفنية الخالصة لن تتأثر بالنقد اللاذع خاصة عندما يجيء من صحف لا تحظى بالاحترام وإن حظيت بالرواج، ولكن مدى ذيوعه وطبيعة تأثيره مرتبطان إلى حدّ بعيد بما يُقال عنه، لا سيما من الإعلام النافذ، فكان حريصاً على إرضاء كل قلم ولسان من أجل ضمان سمعة أدبية خارقة تكفل انسياباً سلساً لأشعاره بين الجماهير لتتلقاها حبّاً كرامة، وذلك بموازاة ما تلقاه تلك الأشعار من الحظوة لدى النخب التي لا تسلم بدورها من التأثّر بالإعلام بشكل أو آخر.
في "اثني عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء" وضمن عرض الطقوس اليومية في حياة الأمير، مما استرقنا النظر إلى بعضه من قبل، يقول المؤلف عن جزء من نهار شوقي: "فإذا رأى أن الوقت لا يزال فيه متسع استقل سيارته إلى جريدة الأهرام وجلس مع الأستاذ داود بركات إلى ما قبل الساعة 2 بدقائق، وأحياناً كانت هذه الزيارة لحضرة الأستاذ عبد القادر حمزة أو المرحوم الأستاذ أمين الرافعي"؛ ذلك نهاراً، أمّا عن طقوس الليل في يوميات الأمير فيقول المؤلف بعد بضع فقرات: "واستمر على ذلك النظام (الليلي) لم يغير فيه شيئاً إلا في السهرة التي تلي السينما، فإنه بدأ يغيرها بعد مضي ثلاثة شهور من سنة 1920، فكان أحياناً يخرج من السينما إلى جريدة الأهرام مباشرة ويقضي الوقت هناك مع الأستاذ داود بركات".
في السياق نفسه، يقول أحمد عبد الوهاب أبو العز عن تفاصيل زيارة مع أحمد شوقي إلى بيروت: "فأقمنا هناك أياماً تخللها كثير من الحفلات والزيارات للأدباء وخيرة العلماء بلبنان، وكثيراً ما زار الفقيد إدارة جريدة المعرض وإدارة جريدة الأحرار". وفي موضع لاحق يقول المؤلف في غضون استعراض طويل لما قالته الصحف في تأبين شوقي: "وقالت جريدة الوادي اللبنانية التي تصدر في زحلة والتي كانت تربط صاحبها بالفقيد أواصر صداقة متينة، وكثيراً ما كان يجلس شوقي في إدارة الوادي في أثناء إقامته في زحلة...".
في تفاصيل حياة الأمير - بدقائقها اليومية ومفترقات طرقها العريضة على حد سواء - الكثير عن علاقة الرجل الوطيدة بالصحافة؛ وهي علاقة – كما رأينا في بعض ما عرضناه من الأمثلة السابقة – لم تكن نموذجاً حالماً تلاحق عبره وسائلُ الإعلام المكتوب أميرَ الشعراء لتحظى بسبق صحفي بعد نشر خبر عنه أو إذاعة جديد شعره، فتزيد أرقام توزيع هذه المجلة أو تلك الصحيفة؛ وكان اسم شوقي على كل حال مما يزيد أرقام توزيع أية مجلة أو صحيفة إذا ورد ذكره فيها بقصيدة له أو حكاية عنه.
ما نلمحه من ثقب الباب المفضي إلى علاقة شوقي بالإعلام قصةٌ واقعية خاضها الرجل بحكمة وصبر ومرونة فائقة كان لا بدّ له منها ليضمن لنفسه خلوداً أدبياً من الواضح أن أطيافه ما انفكّت تراوده في إلحاح شديد.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])