هل الجماهير متواطئة في رسم الصورة المسطّحة لأمير الشعراء أم أن ذلك كان بتأثير السلطات الثقافية والإعلامية، والرسمية بصفة عامة؟ أجيب مباشرة بأن الجماهير كانت متواطئة بالفعل، وهو أمر لا يقتصر على رسم صورة لشاعر عظيم وإنما في كل مقام تقريباً؛ فنحن جميعاً متورّطون في كل ما يحدث حولنا بدرجة أو أخرى، لكن من السهل لنا بطبيعة الحال أن نرمي بثقل المسؤولية الفادح كاملاً على الآخر ونتبرّأ من أية تهمة على هذا الصعيد اكتفاءً بالإقرار بعجزنا؛ بل إن إقرارنا هذا غالباً ما يكون ضمنيّاً وليس تصريحاً نواجه به أنفسنا على الأقل؛ كأنما نرغب في أن نخدع أنفسنا، لكننا في الوقت نفسه نحب أن يتحمّل غيرنا مسؤولية ذلك الخداع.
ما المقصود بالصورة المسطّحة عن أمير الشعراء مقابل صورته الواقعية متعددة الأبعاد؟ على سبيل المثال، في مسلسل "أمير الشعراء أحمد شوقي"، الذي أنتِج سنة 1982 وتولّى فيه دور البطولة محمود يس، ظهر أمير الشعراء غالباً في صورة أقرب إلى المثالية، أو على الأقل صورة مطابقة لنمط شخصية عظيمة تجسّد رمزاً أدبياً لأمّة بأسرها، لا وطن واحد فحسب؛ ذلك النمط الذي يتوقّعه الناس ويحبون أن يَرَوه في كتب السِّيَر الذاتية والغيرية والأعمال الفنية التي تجسّد حياة العظام من طراز أحمد شوقي.
لم يكن حظ المسلسل من الرواج مماثلاً - أو حتى مقارباً – لحظ "الأيام" عن حياة العميد طه حسين، والذي أنتِج قبل "أمير الشعراء" بنحو ثلاثة أعوام. لم يكن "الأيام" أفضل لأنه تحاشى النمط المثالي لتجسيد الشخصية العظيمة، بل ربما لأنه توخّى ذلك النمط ببراعة مستفيداً من عامل مساعد بارز تمثّل في "معجزة" صعود طه الحسين إلى تلك المنزلة الأدبية والاجتماعية الرفيعة مع إصابته بواحدة من أشدّ الإعاقات الجسدية تقييداً.
شخصية أمير الشعراء بالغة الثراء دراميّاً بما يخوّل وصفها بالمتعددة في أبعادها، وذلك مقابل شخصيات أخرى – لأيٍّ من الناس – تحشر ذاتها في جانب واحد من السلوك والاستجابات بحيث تبدو مسطّحة تماماً؛ و"التسطّح" هنا غير "السطحية"، فالأول يشير إلى استواء السطح دلالةً على بعد واحد أو بعدين على الأكثر تتحرك فيهما الشخصية معنوياً، في حين أن السطحية كما هو معلوم ضدّ العمق.
لكن "أمير الشعراء"، المسلسل، لا يتحمّل وحده مسؤولية ذلك التجسيد "المسطّح" لشخصية شوقي؛ فالمسألة كما أشرنا تتعلّق بقالب مثالي في مجتمعاتنا نحب جميعاً أن نحشر أنفسنا فيه، فضلاً عن شخصياتنا الوطنية والقومية عظيمة التأثير.
هل أبعاد شخصية شوقي المتعددة التي أتحدّث عنها باعثة على إضافة مزيد من المجد إلى صيته؟ لا، بل ولا حتى ترسيخ نموذج العبقرية الأدبية بالضرورة، إلّا ما كان من مدخل غرابة الطباع والسلوك باعتبارها ملازمة للعباقرة، وهو ما أحب نفيَه باستمرار؛ فغرابة الأطوار سمة نفسية مرتبطة بطبيعة الفرد بصرف البصر عن حظّه من الذكاء أو الموهبة أو المقام الاجتماعي.
في "أبي شوقي" يقول حسين شوقي: "ألم يكن أبي بوهيمياً حين كان يعاونني على الهروب من المدرسة في المطرية؟ كذلك الحادث الآتي الذي وقع ونحن في برشلونة دليل ساطع على ذلك (يشير إلى تشجيع أمير الشعراء "نشّالاً" في مقتبل العمر على سرقة قلادة ذهبية من عنق رجل عملاق دميم بادي الثراء استسلم للنوم في حافلة، لأنه رأى أن الشاب بهي الطلعة أحق بها)". هذا، ويقصد حسين شوقي بالبوهيمية غالباً نمط السلوك الغريب، ولكن بما اشتهر عن الفنانين والأدباء تحديداً كما هو شائع لدى استخدام المصطلح.
وفي "اثني عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء" يجيء في معرض سرد المؤلف ليوميّات شوقي خارج منزله طوال عشرينيات القرن الماضي: "وكان يبدأ الخروج الساعة 11 صباحاً، وكان يركب سيارة كبيرة دائماً فيذهب إلى محل جروبي بشارع المغربي ويتناول فطوره هناك... وبعد ذلك يمرّ على مكتب دائرته بشارع جلال... حتى إذا كان بشارع فؤاد الأول – عماد الدين – نزل ودخل إلى أجزخانة "ويزر" لقضاء بعض الطلبات أو يستمر من هناك إلى الكونتيننتال ومن ثم إلى جروبي".
لم يستوقفني "جروبي" الوارد مرتين في الاقتطاف أعلاه، بل الأجزخانة التي يبدو أنها كانت شبه ثابتة في يوميات الأمير، وهو أمر غريب بالنسبة لأي إنسان "عادي" لكنه ليس كذلك مع الأمير الذي كان معروفاً عنه أنه يخشى المرض خشية عظيمة ويمارس وسواسه القهري بخصوص النظافة دون اكتراث لأحد، وقد عرضنا لبعض قصصه ذات الصلة من قبل.
أمّا في "حياة شوقي"، فعلى ذمّة أحمد محفوظ "كان الخديوي عباس يعلم عن شاعره حبّه للخمر، فكان يطلق عليه "أبو قارورة"، والقارورة (هي) الزجاجة... وحدّثني أصحاب شبابه أنه ربما رهن ساعته لدى الخمّار وفاءً لثمن شرابه، وكان ذلك قبل أن تقبل عليه الدنيا، فهو في ذلك قريب للشاعر الفرنسي ألفريد دي موسيه، ولكثير من ظرفاء شعراء العرب الذين كانوا يخرجون من أثوابهم للخمارين ويقدّمونها أثماناً لشرابهم بعد إفلاسهم في صخب الحانة بين الصحب والندماء".
وإذا كان ذلك صادماً لعشاق الأمير من المبجِّلين لمقامه الأدبي الرفيع، فإن ما يلي قد يكون أخف بعثاً للصدمة، لكنه عندي يدخل بقوة في سياق تأكيد تعدّد أبعاد شخصية شاعرنا الفريدة وإثرائها من ثمّ لسيرته بما هو باعث على التحليل النفسي والاجتماعي والعرض الدرامي الأبعد غوراً بكثير مما حظي به الأمير من "تسطيح" الصورة، ربما لحسن حظّه ولكن مؤكداً لسوء حظّ الفنّ والأدب في الوقت نفسه. يقول أحمد محفوظ: "كان مولعاً بالتجوال في الأحياء النائية الشعبية في القاهرة والإسكندرية، وإني أتحدّى أيّ إنسان عرف مقرّ شوقي أو مضطربه ما بين الساعة السادسة والثامنة مساءً كل ليلة، فقد كان هذا سرّ الأسرار وخافية الخافيات".
يتحدّث محفوظ بعدها عن عادات لشوقي من قبيل ركوب الترام في المقعد الخلفي من العربة والإنصات إلى حديث السوقة من الركاب، وشربه قدحاً ضخماً من القهوة قبل نومه، وصحبته لمن لا يلائمه، وعن أنه قلّ ما كان يذكر الشعر في مجالسه وإن كان جليسه شاعراً أو أديباً بقدر ما يتحدث عن الطعام والسياسة والأحزاب وغيرها من شؤون الدنيا، وعن أنه "كان يستظرف أن يبدأ حديثاً مثيراً في السياسة بين جلسائه، حتى إذا اشترك في هذا الحديث مختلفان فيه، أذكى ناره ثم ترك هذين المختلفين في حوار عاصف وهو يبتسم، فإذا ذكت النار وعلا لهيبها وأنذرت بسوء العاقبة انتشل ساقه من تحت فخذه اليسرى – وكانت هذه هيئة جلسته - ثم ولى تاركاً الفارسين وهما على وشك المبارزة بالألسن والأيدي".
تلك لمحات يسيرة من دقائق وغرائب طباع وعادات الأمير الذي كان بدوره مولعاً بتقصّي الدقيق والغريب من طباع وعادات البشر فرادى وجماعات.
الصورة المثالية لأيٍّ من الناس رائعة، وهي أشد روعة لا ريب عندما يتعلّق الأمر بالعظماء وسِيَرهم؛ لكن الصورة المثالية زائفة، لا أقول في معظم الأحوال وإنما في كل حال. ليس منّا من هو مثالي، بل ليست ثمة حالة تقترب من المثالية في طباع أو سلوك أيٍ من البشر. كلنا من لحم ومشاعر، والاثنان (اللحم والمشاعر، كناية عن المادي والمعنوي فينا) يحتملان القوة والضعف، الإشراق والخفوت؛ وهما معاً في النهاية إلى اضمحلال وفناء. القوة/التألق والضعف/الخفوت وما بينهما – على المستويين المادي والمعنوي - تجسيد لإنسانيتنا التي لا يعيبها سوى محاولاتنا تجميلها للصعود بها إلى ذرى ملائكية ونحن في الواقع إلى الطرف المضادّ أقرب، إذا كان لا بدّ من الانتساب إلى أحد النقيضين.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])