عمرو منير دهب يكتب: في دقائق طباع الأمير

"وكان سريع التقلّب كالمحيط، فطعام لم يُهيّأ كما رغب يعكّر مزاجه. ولكن إذا كان مزاجه معتدلاً فهو لطيف غاية اللطف، يدلّل الجميع ويلاطفهم، بل يرهق من حوله منّا بالقبلات؛ حتى "بُلوته" (كلبة لهم جلبوها من إسبانيا) كان لها نصيب من هذه القُبَل".

يواصل حسين شوقي في كتابه عن أبيه: "على أن أهم عيوب أبي أنانيّته الشديدة. ترى هل هي من لوازم الشعراء؟ إذ أن شيلر عندما يتحدّث عن طبع صديقه غوته يقول: إنه في الواقع أناني إلى أقصى حدود الأنانية. فمن أنانية أبي مثلاً أننا لم نكن نستطيع أن نتغدّى في ساعة معينة، بل كان لزاماً علينا أن ننتظر شهيّته، وكثيراً ما كان يطول هذا الانتظار... ومن ذلك أنه عندما كنا في أوروبا وكنا نذهب إلى أحد المطاعم كان يغضب منّا، من عليّ ومنّي، حين نختار الأصناف المألوفة، بل كان يجب علينا على حسب رأيه هو أن نختار أصنافاً جديدة مجهولة الأسماء كي يختار هو منها في المرة القادمة إذا راقته، فكانت اقتراحاته هذه تفسد علينا الأكلة، لأن تلك الأصناف المجهولة كانت "مقالب" في معظم المرات؛ كان حظي منها مرة ضفدعاً، وطبعاً لم آكله، بل صدّ نفسي عن تناول أي طعام آخر".

وعن أنانيّةٍ لا تخلو من الجرأة في مقام ملوكي، يقول حسين عن أبيه متسائلاً: "ألم يكن أبي أنانياً عندما تخلّى عن الخديوي حين سافر سموّه إلى الحجاز ليؤدي فريضة الحج، ذلك العاهل الذي كان هو شاعر بلاطه، والذي كان يحبه ويعطف عليه كل العطف؟ وكان أبي كلما روى هذا الحادث فيما بعد يضحك ملء شدقيه؛ يقول إنه أقنع سموّه بأنه ذاهب معه إلى الحج، ولكن عندما بلغ الركب الخديوي "بنها" اختفى منه أبي، فجعل سموه يبحث عنه ولكن بدون جدوى؛ ويقول أبي إنه اختفى إذ ذاك في منزل أحد أصدقائه".

نتحدّث هنا عن دقائق طباع شاعرنا العظيم لأسباب عديدة ليس من بينها بحال الوقوف على ما عساه أن يكون مرتبطاً بعبقريّته الشعرية، فالعباقرة في أي مجال بشر من لحم ومشاعر، طباعهم لا تختلف عمّا يمكن أن يكون لدى أيٍّ من الناس، إنهم فقط موهوبون في مجالاتهم؛ وبالنسبة للشعراء تحديداً فإنني – على سبيل المثال للحديث عن الطباع - لست بحال مع القول بأنهم أشدّ حساسية من غيرهم، فمنهم الحسّاس ومنهم الأدنى حساسية في المشاعر، إنهم فقط موهوبون في التعبير عن مشاعرهم بصرف النظر عن مستوى الحساسية – من أية ناحية – في تلك المشاعر.

ماذا عساها إذن أن تكون تلك الأسباب وراء التنقيب في طباع الأمير؟ قد يساعد ذلك التنقيب في سبر بعض أغوار شاعرنا، وقد يعين على فهم السياق الاجتماعي والتاريخي بصفة عامة لتلك الحقبة، وهو لا شك ذو فائدة في تأمّل الطبيعة البشرية على وجه العموم، وربما يكون الدافع الأساس لذلك التنقيب هو الفضول لا أكثر.

بكل ذلك في الاعتبار، نواصل مع حسين شوقي وهو يكشف من طباع أبيه ما هو أدقّ من الأنانية، وإن يكن بطبيعة الحال مما لا يُستغرب من كثير من الناس في إطار ما يجاهدون في إخفائه على الأرجح باختلاف خلفياتهم ومقاماتهم: "من دواعي الأسف أن أبي كان يخلط الخيال والشعر بالشؤون المالية، وهما أمران متناقضان، مثال ذلك أنه لما اشترى هذه العزبة، وكانت صفقة خاسرة، سأله أحد أصدقائه عن مدى جودة تربتها فأجابه: لا بدّ أن تصبح أرضاً طيبة لأن ابني حسين قد باركها إذ طاف حولها على ظهر حمار، كما فعل السيد المسيح".

مجدداً، هذا لا علاقة له بخلط الخيال والشعر بأيٍّ من شؤون الحياة بقدر ما هو طبع أحدهم الذي فُطر عليه بصرف البصر عن مهنته أو موهبته أو مستواه من العبقرية في أي مجال. لذلك، فإن شاعرنا العملاق هذا "كما كان يتفاءل... كان أيضاً يتشاءم، فكان إذا تراءى له من بُعد أحد معارفه الذين اشتهروا بمنحوس الطالع، ركب سيارته من فوره وأمر السائق بالانطلاق".

بالإيغال فيما هو أشدّ دقة وغرابة من طباع الأمير، المغروسة في ناس من مختلف المشارب بما يلاحظه فقط المقربون من أولئك الناس غالباً، نقرأ في "حياة شوقي" لأحمد محفوظ: "وكان على سخاء مائدته وكثرة ألوانه يكره أن يُكثر مؤاكلُه من صنف اختاره هو وأوصى به طبّاخه. حدث أن دعاني إلى الغداء يوماً، وكان صنفه في هذا اليوم "كفتة بالصلصة"، وكانت متقنة الطهو؛ فاغترفت منها مرتين، فحدجني بنظرة قاسية لم أفطن لمعناها حينئذ، فلما فرغنا من الطعام خلوت بنجله علي شوقي – ونحن أصدقاء وليس بيننا حشمة ولا حرج – فاستفسرت منه عن معنى نظرة أبيه التي حدجني بها في غير جرم أتيته، فقال: لأنك أخذت من طبقه المفضّل مرتين، وهذا جرم عنده عظيم".

المتنبي لم يكن بحال أقلّ غرابة في الطباع من شوقي، لكن الناس لا يندهشون من غرابة طباع المتنبي لأنه يجاهر بها في أشعاره وفي الظاهر من سيرته؛ أمّا أميرنا هذا فما ظلّ يظهر منه للجماهير لم يكن في الغالب سوى عبقريّته الشعرية وسَمْتُه الذي يتجلّى من صورة وجهه الشهيرة التي يبدو فيها هادئاً وقوراً وعميقاً، لذلك فإن من يقرأ عن دقائق طباعه هذه سيُدهش لا ريب، وهو ما أصابني بدرجة ما حين توغّلت في تقصّي تلك الطباع وأنا بصدد الإعداد لهذا الكتاب بعد نحو أربعة عقود من بداية صلتي الأدبية والوجدانية الوطيدة بشاعري الأثير.

وإذا كان المتنبي – في مقام الحديث عن بعض أشهر طباعه – ينكر معرفته بكثير من أنداده الشعراء والأدباء من معاصريه ومن السابقين له على حدّ سواء، فإن ذلك لم يكن مشهوراً عن شوقي بحال؛ لكن أحمد محفوظ يقول: "لم أسمعه يذكر شاعراً قط إلا المتنبي، وكان يفضّله على سائر الشعراء كما أسلفت. وذكر مرة الجاحظ فنال منه، فدهشت وقلت: هذا سيد أدباء العربية، فقال: لا، ولاحت على وجهه ظلال الغيرة من الرجل؛ فعجبت لغيرته من كاتب وهو شاعر".

وفي "اثني عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء" يذكر أحمد عبد الوهاب أبو العز عن حياة شوقي داخل المنزل أن "أول شيء يقوم به الخادم في الصباح أن يأتي بالماء الفاتر والصابون فيغسل رأسه ووجهه ويغسل له الخادم ذراعيه للمرفقين وقدميه للركبتين بالصابون، وبعد أن يجففهما يغسلهما مرة أخرى بالكولونيا".

في اللقطة أعلاه من بداية يوم الأمير دلالتان: واحدة تومئ إلى الكسل الشديد وأخرى إلى وسواس قهري واضح حول النظافة؛ وإذا كان وسواسه معروفاً إلى حدّ ما فإن كسله لم يكن بذات الشهرة؛ والأهم أن ذلك الكسل كان إزاء أمور غريبة كإتمام طقوس النظافة الشخصية عند الاستيقاظ، ولم يكن بحال على صعيد إنجاز أعظم الأعمال الشعرية الكلاسيكية في تاريخ الأدب العربي.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: [email protected]