شحاته السيد
عندما نتأمل في المشهد الراهن للذكاء الاصطناعي نجد أنفسنا أمام سؤال شديد التعقيد، يتجاوز حدود التقنية ليصل إلى جوهر القانون والفلسفة والملكية الفكرية، وهو سؤال يتعلق بمن يملك فعلاً المخرجات التي تنتجها هذه النماذج الاصطناعية؟ وهل هي ملك لصانع الأداة؟ أم للمستخدم الذي يقدم المدخلات؟ أم للشركة التي بنت البنية التحتية التي جعلت تلك الأداة قادرة على العمل أصلاً؟ أم أنها تدخل في منطقة رمادية يصعب ضبطها داخل أطر الملكية التقليدية؟
القضية في جوهرها ليست جديدة؛ فقد شهدنا عبر التاريخ أسئلة مشابهة عند ظهور الطباعة، ثم الكاميرا، ثم التسجيل الصوتي، فالآلات دائماً ما كانت تهز يقين البشر تجاه فكرة الإبداع الفردي وحقوق المؤلف. ولكن ما يميز الذكاء الاصطناعي أن الآلة لم تعد مجرد وسيلة مساعدة، بل أصبحت شريكاً في صياغة النص أو الصورة أو اللحن أو حتى الحلول العلمية التي لم يكن في مقدور الفرد الوصول إليها بنفسه، وهذا ما يجعل الجدل أكثر حدة وأعمق أثراً.
القانون الدولي لحقوق المؤلف كان دائماً يؤكد أن الإبداع يرتبط بالشخص الطبيعي، أي الإنسان، وليس الكيان الاصطناعي. فالمؤلف في اتفاقية بيرن وفي تشريعات أغلب الدول هو الفرد الذي يبدع المصنف بعقله وجهده وتفرده. إلا أن الوضع اليوم مع الذكاء الاصطناعي يهز هذه القاعدة، فالمخرجات أحياناً تتسم بالأصالة والتفرد لدرجة يصعب معها إنكار كونها عملاً فنياً أو أدبياً مكتمل المعالم. لكن من المؤلف هنا؟ هل هو النظام نفسه الذي لا يتمتع بالشخصية القانونية؟ أم المستخدم الذي قد يكون اكتفى بكتابة جملة توجيهية بسيطة؟ أم الشركة المطوّرة التي أنفقت المليارات في التدريب والبحث؟
في الولايات المتحدة مثلاً جاء الموقف واضحاً نسبياً، عندما قضى مكتب حقوق المؤلف الأمريكي بأن الأعمال الناتجة بشكل كامل عن الذكاء الاصطناعي لا تتمتع بالحماية إذا لم يكن للإنسان دور جوهري في إنتاجها. وهو ما انعكس في قضايا مثل قضية كريس كاسبرك ضد مكتب حقوق المؤلف عام 2022، حيث طلب تسجيل لوحة مرسومة بالذكاء الاصطناعي، ورفض المكتب الطلب لغياب العنصر البشري. وقد جاء الحكم متسقاً مع سوابق تاريخية ترى أن الحق الأدبي والمالي لا ينشأ إلا من خلال العقل البشري نفسه.
لكن الصورة ليست واحدة في العالم كله؛ ففي بريطانيا مثلاً هناك نص في قانون حقوق المؤلف والتصاميم والبراءات لعام 1988 يتيح إسناد الحقوق للشخص الذي رتّب لإنتاج العمل بواسطة الحاسوب إذا لم يكن هناك مؤلف بشري مباشر. وقد اعتبره البعض محاولة استباقية للتعامل مع إبداعات الآلة قبل أن تصبح واقعاً، وهو ما فتح الباب لتفسيرات متعددة حول من يملك النص أو الصورة أو الموسيقى إذا كان مصدرها ذكاءً اصطناعياً؟
الجانب الاقتصادي يضيف طبقة أخرى من التعقيد، فالمخرجات التي ينتجها الذكاء الاصطناعي أصبحت سلعة تباع وتشترى وتحدد قيمتها في الأسواق، خصوصاً في مجالات مثل التصميم الإعلاني وصناعة المحتوى والبرمجة الصحفية وغيرها. فإذا لم يكن واضحاً من يملك الحق، فمن يتحمل المسؤولية القانونية إذا حدث انتهاك لحقوق طرف آخر؟ أو إذا استُخدمت هذه المخرجات في التلاعب والتضليل الإعلامي؟ ومن يحق له الاستفادة مالياً من بيع أو توزيع تلك المخرجات؟
الأمر يتصل كذلك بمفهوم العدالة في الإبداع، فالذكاء الاصطناعي يتغذى على بيانات ضخمة مأخوذة من ملايين النصوص والصور والمقاطع الموسيقية المتاحة على الإنترنت، وأغلبها أنتجه بشر دون أن يمنحوا إذناً صريحاً باستخدام أعمالهم في تدريب النماذج. هنا يظهر سؤال أخلاقي شديد الحساسية: إذا كانت خوارزميات الذكاء الاصطناعي قادرة على إنتاج نص مشابه أو صورة تحمل نفس الأسلوب الفني لفنان ما، فهل يعد هذا شكلاً من أشكال الاقتباس المشروع؟ أم هو انتهاك لحقوق المؤلف الأصلي الذي لم يحصل على مقابل؟
في العالم العربي لا يزال النقاش في بداياته، فأغلب التشريعات لم تلتحق بعد بالتفاصيل الدقيقة لهذه الثورة. فمعظم القوانين في المنطقة، مثل قانون حماية حقوق الملكية الفكرية المصري لعام 2002 أو قانون حق المؤلف الإماراتي لعام 2021، لا تنص صراحة على الذكاء الاصطناعي، مما يجعل المسألة مفتوحة أمام التقديرات القضائية والاجتهادات الفقهية المستقبلية. لكن المؤكد أن الأطر القانونية التقليدية لم تعد كافية، وأن المنطقة ستحتاج عاجلاً أو آجلاً إلى تحديث تشريعاتها لمواكبة هذا الواقع الجديد.
المعضلة الفلسفية ربما أعمق من القانونية، إذ إننا نقف أمام سؤال عن ماهية الإبداع ذاته: هل هو فعل فردي مرتبط بالوعي الإنساني؟ أم يمكن أن يكون نتاجاً لآلة لا تدرك ولا تشعر؟ هناك من يرى أن الإبداع ليس مجرد إنتاج جديد، بل هو انعكاس للتجربة الإنسانية الوجدانية والثقافية، وهو ما لا يمكن للآلة امتلاكه. بينما يرى آخرون أن المخرجات إذا حملت أصالة وتأثيراً فإنها تستحق أن تُعامل كإبداع، بغض النظر عن مصدرها. لكن كلا الرأيين يتركان فراغاً عملياً فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والقانونية.
على المستوى العملي نشهد اليوم توجهاً من الشركات الكبرى إلى فرض شروط استخدام واضحة، تنص على أن المخرجات التي يولدها النظام تعود ملكيتها للمستخدم وليس للشركة، بشرط ألا تكون مخالفة للقانون أو متضمنة مواد محمية بحقوق الغير. مثل ما أعلنت عنه شركات كبرى مثل OpenAI وGoogle وAdobe في تحديثات سياساتها. هذا التوجه يبدو محاولة لتشجيع الاستخدام التجاري وطمأنة المستخدمين، لكنه لا يحل الإشكال الأخلاقي، ولا يضمن أن المخرجات لن تكون معرضة لنزاعات قضائية مستقبلية.
الصحافة، كأحد أكثر المجالات حساسية، تجد نفسها في قلب هذه المعضلة. فإذا كتب الذكاء الاصطناعي تقريراً صحفياً بناء على مدخلات بسيطة من الصحفي، فمن هو المؤلف الحقيقي هنا؟ وإذا نشرت الصحيفة النص، فهل تملك الحق الكامل في حمايته من النسخ وإعادة الاستخدام؟ أم أن النص أصلاً لا يمكن حمايته قانونياً لأنه ليس من إنتاج عقل بشري؟ هذه الأسئلة تمس جوهر المهنة التي تقوم على فكرة الأصالة والسبق الصحفي
نرشح لك: بسبب إضرابه عن الطعام.. سينما زاوية تقرر عرض فيلم المخرج محمود يحيى