عمرو منير دهب يكتب: خصوم الأمير

أشرت غير مرّة في غير موضع إلى أن ثنائية شوقي وحافظ ثنائية مصطنعة بالنظر إلى الفارق الفنّي الكبير بين الشاعرين، ولا أرى مسوّغاً لتلك الثنائية سوى التباين اللافت في الخلفية الاجتماعية، ذلك التباين الذي كان الدافع الأساس وراء ابتداع تلك الثنائية وإذكاء نيرانها قبل أن تتلاشى في حقبة تالية من عمر العلاقة، وهو تلاشٍ لم يكن بسبب التقاء الخلفيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للشاعرين التقاءً كاملاً بقدر ما كان تلاشياً لصالح رسم صورة مثالية لعظيمين يجسّد تواجدهما المادي والمعنوي معاً في أنظار ووجدان الجماهير فكرة "لقاء السحاب" التي تدغدغ المشاعر في كل زمان ومكان، لا سيما في محيطنا العربي.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: التفتيش في قلب شوقي

ليس مهمّاً مَن على وجه التحديد أطلق شرارة الثنائية الأولى؛ ولكن، ربما من باب الفضول في تقصّي المسألة - وبحسب أحمد محفوظ في "حياة حافظ إبراهيم" - الإشارة إلى الشيخ علي يوسف بوصفه من فعلها على الأرجح: "ولم ينس حافظ يد الشيخ عليه فيرثيه ويقول... وهي قصيدة طويلة نظمها كلها في مناقب الشيخ ولكنه لم يذكر تلك الأيادي التي أفرغها عليه الشيخ علي يوسف يوم جعله قريعاً لشوقي. وحافظ لا يخجله الاعتراف بالجميل، فقد اعترف بفضل الأستاذ الإمام، وصنيع المرحوم أحمد حشمت باشا وغيرهما، فلعله قد نسي هنا أن يذكر أيادي الشيخ رحمه الله". وقبل موضع هذا الاقتطاف من الكتاب بفقرتين يشير محفوظ إلى أن الشيخ علي يوسف هو من خلع على حافظ لقب "شاعر النيل".

وفي موضع سابق من "حياة حافظ إبراهيم" يقول محفوظ: "إن جورجي زيدان وإبراهيم اليازجي كانا في رأس إخواننا السوريين الذين أنعشوا نفس حافظ وجعلوه يتطلّع إلى منافسة شوقي الشاعر ويخال أنه قرين له مساوِ".

لكن قصة صعود حافظ إلى مقام الثنائية مع شوقي أكبر من مجرد أن ينفرد بابتداعها رجل أو اثنان أو ثلاثة متّفقو أو مختلفو المشارب. بحسب محفوظ مجدداً "يعرف حافظ إبراهيم الطريق إلى اللواء سنة 1906 حيث كانت حادثة دنشواي، فيرسل بقصيدة مستعرة إلى الصحيفة المجاهدة يلعن الإنجليز أعداءه بالأمس في السودان، فيرحب مصطفى كامل بالشاعر الشاب الخطيب الذي يشبه دون كيشوت أو عروة الصعاليك الذي لا يُعرف له مأوى ولا رزقاً. ويرى حافظ سوق الوطنية تضج بالشهرة التي ظلّ يعشقها دائماً فيغامر ويظل يعرض بضاعته مكتوبة أو مقولة على ذوائب المنابر. وتصفق الجماهير، فيتيه الشاعر ويتمايل عجباً، ويشار إليه في صحف مصورة تصويراً رديئاً حائلاً، يصورونه وكأنه ميرابو خطيب الثورة الفرنسية. ويقف في مدرسة مصطفى كامل يثني على الزعيم الشاب بعد خطابه الوطني... ويطلق اللواء اسم شاعر الوطنية على حافظ ثم يشرفه بلقب آخر هو شاعر الحزب الوطني. وقد ظهر حافظ على الشعراء الذين كانوا ينافسونه في الشعر الوطني مستترين أو مجاهرين. ظهر على شوقي وإسماعيل صبري المستخفيَين، وخليل مطران المجاهر، لأنه كان أكثرهم شعراً وأعظمهم ضجة في الوطنية".

بصرف النظر عن التفاصيل واختلاف الروايات المتوقع بطبيعة الحال، فإن تلك هي الأجواء التي صعدت بحافظ إلى مقام الثنائية مع الأمير؛ وأحمد محفوظ دقيق حين يشير إلى أن حافظ كان "أعظمهم ضجة في الوطنية"، فبرغم جودة شعره الوطني فإن قدرته الفريدة على صناعة الضجيج الوطني هي على الأرجح ما سما به فوق الجميع في آفاق الشعر الوطني، وذلك قبل أن يتصالح شوقي – خلال منفاه وبعد عودته منه – مع الجماهير، ليس وطنيّاً فحسب وإنما أيضاً قوميّاً على المستويين العربي والإسلامي.

أفضنا في شأن ثنائية حافظ وشوقي لأنها تجسّد مثالاً صارخاً لتجليات الخصومات التي تعرّض لها الأمير، ولعل أبرز الخصوم الذين رسّخوا تلك الثنائية ليس الشيخ علي يوسف ولا الزعيم مصطفى كامل – على سبيل المثال – بقدر ما كانت الجماهير نفسها هي من فعل ذلك باستجاباتها المنحازة لمن تراه خرج من رحمها، أو – للدقة – خرج معها من ذات الرحم.

في "أبي شوقي"، يقول حسين شوقي: "على أننا لم نكد نصل إلى مصر (من رحلة صيفية إلى إسطنبول أعلِنت خلالها الحرب العالمية الأولى)، ثم يعزل بعد ذلك الخديوي، حتى أخذ عدد زوّار الكرمة ينقص يوماً بعد يوم، بل صار الأصدقاء يخشون لقاء أبي كي لا يُتّهموا بمصاحبة أحد رجال النظام القديم... مسكين أبي كم تألم لهذه الحال، وبخاصة لجحود الناس، وهو الشاعر الشديد التأثر والإحساس، لذلك قابل بارتياح حكم السلطة العسكرية في ذلك الوقت حينما كلّفته بمغادرة الوطن عام 1915، لينجو من الدسائس ولا يتألم بمثل هذه المشاهد".

يواصل حسين شوقي: "لم يطرق أبي الهجاء إلا نادراً جداً لأنه يراه غير خليق بالشعر الرفيع... ولكن إزاء ما رآه من جحود الناس في تلك الفترة التي تلت عزل الخديوي اضطر أن يلجأ إليه اضطراراً، فيقول في الذين تألبوا عليه إذ ذاك:

شَكَرتُ الفُلكَ يَومَ حَوَيتِ رَحلي ** فَيا لِمُفارِقٍ شَكَرَ الغُرابا

فَأَنتِ أَرَحتِني مِن كُلِّ أَنفٍ ** كَأَنفِ المَيتِ في النَزعِ اِنتِصابا

وَمَنظَرِ كُلِّ خَوّانٍ يَراني ** بِوَجهٍ كَالبَغِيِّ رَمى النِقابا

كما أنه هاجمهم أيضاً في القطعة النثرية التي كتبها لدى اجتيازنا قناة السويس في طريق المنفى فقال: إن للنفي لروعة، وإن للنأي للوعة، وقد جرت أحكام القضاء، بأن نعبر هذا الماء، حين الشر مضطرم، واليأس محتدم، والعدو منتقم، والخصم محتكم، وحين الشامت جذلان مبتسم، يهزأ بالدمع وإن لم ينسجم، نفانا حكام عُجم، أعوان العدوان والظلم، خلفناهم يفرحون بذهب اللجم، ويمرحون في أرسان يسمونها الحكم".

تلك من تجلّيات تقلّبات الزمان التي لا يسلم منها أحد، وتكون عواقبها بطبيعة الحال أشدّ وطأة على أصحاب المقامات الرفيعة الذين تمرّغوا زماناً في النعيم والسطوة قياساً إلى غيرهم من الناس بصفة عامة، وذلك في ضوء قانون الفعل وردّ الفعل الذي ينطبق على مادّيات الوجود ومعنويّاته جميعاً ولا يقتصر على حركة الأجسام في الفيزياء فحسب.

خصوم الأمير الأجدر بالانتباه هم أولئك الذين ناصبوه العداء أدبيّاً، وقد أشرنا إلى بعضهم فيما سبق من هذا المقال؛ ولعل عباس العقاد كان من أشدّ خصوم شوقي شراسة كما هو معروف؛ وقد ألمحنا كذلك في مقام مضى إلى طه حسين الذي كان يعرف مقام شوقي الفنّي لكنه بحسب ما رأينا لم يوفّه حقّه كاملاً. في كتاب بعنوان "تقليد وتجديد" يقول العميد: "والناحية الثانية هي أنه فجأة استكشف نفسه فإذا هو شاعر قد خُلق ليكون مجدّداً، وكان من حقه أن يذهب إلى هذا التجديد منذ أخذ يقول الشعر... ولو كان قد أقبل على هذا التجديد من أول حياته لكان شوقي من أشعر شعراء العرب من غير شك وفي غير جدال".

هذه ليست شهادة لصالح الأمير بل ضدّه، فالعميد يضع شرطاً افتراضياً ليجيء جواب الشرط بعده مقيّداً، فهو لم يقل إن شوقي من أشعر شعراء العرب ولو فعل كذا لكان أشعرهم على الإطلاق، وإنما قال إن شوقي لو انتبه إلى التجديد من أول حياته لكان "من أشعر شعراء العرب".

القدرة على إطلاق الأحكام بلا قيود هي حظ نادر يتطلب شجاعة نقدية ومبدعاً يستحق الحكم المطلق؛ أمّا الشجاعة النقدية فلم تكن مما ينقص طه حسين، وأمّا الاستحقاق الإبداعي فلم يكن أيضاً مما ينقص أحمد شوقي، ولكن العميد لم ينصف الأمير، ليس بالضرورة بسبب خصومة (ذات ظلال اجتماعية/طبقية) ولكن ربما بسبب جلال التاريخ الأدبي العربي العظيم الذي يحفل بشعراء أثيرين لدى طه حسين من طراز المعرّي والمتنبي على سبيل المثال، وإن يكن من الحكمة في سياق المفارقات هذا أن نتذكّر أن عميد أدبنا العربي الجليل قد تجرّأ على أبرز أسس ذلك التاريخ العظيم ممثّلاً في الشعر الجاهلي، وإن يكن قد عاد فتحفّظ على تلك الجرأة كما هو معلوم.

كانت حياة الأمير إذن حافلة بالخصوم والمكائد والمكايدات؛ وسواء بالنسبة إلى خصوم ونقّاد من طراز العقاد وطه حسين وجورجي زيدان واليازجي وعلي يوسف، أو غيرهم على اختلاف درجات وأشكال الخصومة والإجحاف في التقييم النقدي، فإن أثر خصومه ونقّاده اللاذعين - وحتى أعدائه صريحي العداء - لم يكن سلبيّاً صرفاً في كل الأحوال، بل لعل ذلك الأثر تضمّن من الإيجابيات ما فاق السلبيات الماحقة، إذ نبّهته تلك الخصومات على الأرجح إلى تحاشي عثرات الحياة الشخصية من مختلف جوانبها المؤثرة في سيرته الإبداعية وحفزت فيه مزيداً من الانتباه الدقيق إلى بواعث الإبداع الفنّي منقطع المثال على نحو ما كان يطمح على وجه التحديد، فهو لم يرد أن يكون "من أشعر شعراء العرب" وإنما أراد أن يكون أشعرهم على الإطلاق.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])