سَأَلوني لِمَ لَم أَرثِ أَبي ** وَرِثاءُ الأَبِ دَينٌ أَيُّ دَين
أَيُّها اللُوّامُ ما أَظلَمَكُم ** أَينَ لي العَقلُ الَّذي يُسعِدُ أَين
يا أَبي ما أَنتَ في ذا أَوَّلٌ ** كُلُّ نَفسٍ لِلمَنايا فَرضُ عَين
هَلَكَت قَبلَكَ ناسٌ وَقُرى ** وَنَعى الناعونَ خَيرَ الثِقَلَين
غايَةُ المَرءِ وَإِن طالَ المَدى ** آخِذٌ يَأخُذُهُ بِالأَصغَرَين
وَطَبيبٌ يَتَوَلّى عاجِزاً ** نافِضاً مِن طِبَّهُ خُفَّي حُنَين
إِنَّ لِلمَوتِ يَداً إِن ضَرَبَت ** أَوشَكَت تَصدَعُ شَملَ الفَرقَدَين
تَنفُذُ الجَوَّ عَلى عِقبانِهِ ** وَتُلاقي اللَيثَ بَينَ الجَبَلَين
وَتَحُطُّ الفَرخَ مِن أَيكَتِهِ ** وَتَنالُ البَبَّغا في المِئَتَين
أَنا مَن ماتَ وَمَن ماتَ أَنا ** لَقِيَ المَوتَ كِلانا مَرَّتَين
تكاد هذه القصيدة لشوقي في رثاء أبيه تكون بمثابة ما يقدّمه كثير من معجبيه من الجماهير والأدباء والنقّاد – على حدٍّ سواء – لخصومه كعربون مودة وزلفى من باب الإقرار من جانب أولئك المعجبين بأن أثيرهم الأمير ليس إلا بشراً من الشعراء يخطئ ويصيب، له تجلّياته العليا وله سقطاته التي تهوي به إلى سفوح من البلاغة لا تتناسب ومكانته السامية التي يتوّجونه بها أميراً في بلاط الشعر العربي، ربما على مرّ العصور كما يرى بعضهم.
أنا تحديداً من أشدّ المنحازين إلى تتويجٍ مجازي للرجل في مملكة الشعر العربي الغنائي أميراً أو ملكاً أدبياً على مرّ العصور، ولكن دون أن أجد نفسي مضطرّاً في أيٍّ من الأوقات إلى تقديم تنازل لإثبات أن شاعري الأثير له سقطاته الفنيّة التي كان جديراً به ألّا يقع فيها، وذلك لسببين: الأول أن تتويج الرجل بوصفه الأبرز من بين شعراء العرب الغنائيين على مرّ العصور لا يعني أن كل قصائده من مستوى فنّي رفيع واحد أو أنه بلا سقطات؛ أمّا السبب الثاني – الأهم - فهو أن عبقرّية شاعرنا هذا تتبدّى حتى في ما يراه خصومه سقطات فنيّة واضحة، لا مقارنة بغيره من الشعراء بالضرورة وإنما ابتداءً بالقياس إلى قصائده الفريدة من حيث القيمة الفنّية أو الحظوة الجماهيرية.
مرثية شوقي لأبيه لم تخلُ من معجبين كُثر لم يروها سقطة فنية بحال، لكن مَن رأوها متواضعة فنيّاً – سواء من الخصوم أو المعجبين – أخذوا عليها ما لا أراه عيباً فنيّاً بالضرورة بقدر ما هي مسألة وجدانية/أخلاقية موضع جدال؛ فافتقار القصيدة إلى العاطفة الدفّاقة لا يعيبها فنّياً، خاصة أن استشعار العاطفة يختلف باختلاف طبيعة اعتمالها في قلب صاحبها، فربما كان شوقي في هذا المقام يجاهد في كبح جماح انفعالاته بالحدث الفادح لأن ذلك يفوق طاقته في الاحتمال الوجداني إزاء فقد بذلك الحجم، فأتت القصيدة من ثمّ معبّرة عن تلك الانفعالات المكتومة أو المقيّدة بدافع الإنكار كحيلة نفسية تعمد إلى تهوين ما حدث وهي تعلم في قرارتها أنه جدّ عظيم.
غير أن اللوم – ليس الاجتماعي/الأخلاقي فحسب وإنما النقدي أيضاً – كان قد سبق إنشاء القصيدة كما يذكر شاعرنا في مطلعها إشارة إلى سؤال المستبطئين من الخصوم الذين كانوا كأنما يرون تأخّر الشاعر الفحل في "مهمة" نبيلة كتلك دليلاً على قصور فنّي في التعبير، أمّا المستبطئون من المعجبين فقد كان تأخر القصيدة المرتجاة على ما يبدو سبباً بالنسبة لهم في الشعور بالخذلان بعد أن طال انتظارهم في ترقّب مرثيّة متحفة تطيح بكل ما قاله العرب في هذا الباب على مرّ التاريخ.
شعرياّ، العاطفة المشبوبة مهمة لا ريب، خاصة في أغراض كالرثاء، لكنها ليست كلّ شيء؛ بل إن الموهبة العملاقة تتجلّى حين تتخطّى القصيدة تحدّي العاطفة المباشرة فينفعل الشاعر بقضية بعيدة ويكتب عنها كأنها تخصّه شخصيّاً. هنا يبدو الشاعر الأصيل كالممثل الموهوب الذي يقرأ الدور المنوط به ويتقمّصه مهما يكن غريباً بالنسبة له؛ وقد كانت لشوقي تلك المقدرة الهائلة على الانفعال الأدبي بكل ما يحدث حوله مهما يكن الموضوع بعيداً وغريباً.
هذا، ومن الأهمية بمكان عظيم أن ينتبه الناقد الحصيف إلى أنه لا يحق له أن يملي على الشاعر الكيفية التي عليه أن يعبّر بها عن أفكاره ومشاعره، فالناقد ثاقب البصيرة يستنبط عاطفة الشاعر من كل المداخل النفسية والتعبيرية الممكنة ولا يتعجّل لإطلاق حكمه تبرئةً لذمّة نقدية أو إرضاءً لهذه الطائفة أو تلك من النقاد والجماهير، سواءٌ من المعجبين المنحازين إلى الشاعر أو أولئك الذين يقفون ضدّه باستمرار.
بالعودة إلى مرثيّة شوقي لأبيه، هل كانت القصيدة بالفعل متواضعة فنّيّاً؟ إذا كان السؤال قياساً إلى قصائد أو مراثي الأمير الأخرى فربما نعم وربما لا، ولكن إذا كان التقييم من وجهة فنية مطلقة، فـ"لا" واضحة؛ ولنتأمّل – إضافة إلى مطلع القصيدة المحكم والعميق، الأبيات التالية:
اِنظُرِ الكَونَ وَقُل في وَصفِهِ ** كُلُّ هَذا أَصلُهُ مِن أَبَوَين
فَإِذا ما قيلَ ما أَصلُهُما ** قُل هُما الرَحمَةُ في مَرحَمَتَين
فَقَدا الجَنَّةَ في إيجادِنا ** وَنَعِمنا مِنهُما في جَنَّتَين
وَهُما العُذرُ إِذا ما أُغضِبا ** وَهُما الصَفحُ لَنا مُستَرضِيَين
لَيتَ شِعري أَيُّ حَيٍّ لَم يَدِن ** بِالَّذي دانا بِهِ مُبتَدِأَين
وَقَفَ اللَهُ بِنا حَيثُ هُما ** وَأَماتَ الرُسلَ إِلّا الوالِدَين
ما أَبي إِلّا أَخٌ فارَقتُهُ ** وُدُّهُ الصِدقُ وَوُدُّ الناسِ مَين
طالَما قُمنا إِلى مائِدَةٍ ** كانَتِ الكِسرَةُ فيها كِسرَتَين
وَشَرِبنا مِن إِناءٍ واحِدٍ ** وَغَسَلنا بَعدَ ذا فيهِ اليَدَين
وَتَمَشَّينا يَدي في يَدِهِ ** مَن رَآنا قالَ عَنّا أَخَوَين
نَظَرَ الدَهرُ إِلَينا نَظرَةً ** سَوَّتِ الشَرَّ فَكانَت نَظرَتَين
يا أَبي وَالمَوتُ كَأسٌ مُرَّةٌ ** لا تَذوقُ النَفسُ مِنها مَرَّتَين
كَيفَ كانَت ساعَةٌ قَضَّيتَها ** كُلُّ شَيءٍ قَبلَها أَو بَعدُ هَين
أَشَرِبتَ المَوتَ فيها جُرعَةً ** أَم شَرِبتَ المَوتَ فيها جُرعَتَين
لا تَخَف بَعدَكَ حُزناً أَو بُكاً ** جَمَدَت مِنّي وَمِنكَ اليَومَ عَين
أَنتَ قَد عَلَّمتَني تَركَ الأَسى ** كُلُّ زَينٍ مُنتَهاهُ المَوتُ شَين
لَيتَ شِعري هَل لَنا أَن نَلتَقي ** مَرَّةً أَم ذا اِفتِراقُ المَلَوَين
وَإِذا مُتُّ وَأودِعتُ الثَرى ** أَنَلقَّى حُفرَةً أَو حُفرَتَين
ليست الحكمة العميقة فقط هي ما يستوقفنا إعجاباً في الأبيات أعلاه، بل العاطفة الدفينة أيضاً؛ غير أن الأحكام النقدية - شأنها شأن معظم آراء البشر في كل صعيد من الحياة - لا تتشكّل عادة بالتأمّل الذاتي قدرَ ما تبدو كما لو كانت كرة ثلج تتعاظم كلما تدحرجت وهي تلتقط ما تناثر من الأفكار والانفعالات المسبّقة على طول الطريق.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])