في مقدمته العميقة لكتاب أحمد محفوظ "حياة شوقي" يقول عزيز أباظة: "وكذلك وازن المؤلف (أحمد محفوظ) بين المتنبي وشوقي، وانتهى إلى أن المتنبي اغترف من معين الحكمة أضعاف ما اغترف شوقي، وهذا الرأي ليس جديداً عليّ، كما أنه ليس جديداً على القرّاء، ولكنه رأي فيه نظر كما يقولون. فشوقي كان أعمق فكراً، وأبعد مدى، وأوسع ثقافة من المتنبي، وآية ذلك أن ديوان المتنبي لم يضمّ بين دفتيه قصيدة برمّتها في التأمّل وفلسفة الحياة، اللهم إلا تلك القصيدة القصيرة (صحب الناس قبلنا ذا الزمانا). وما ورد بعد ذلك من شعر الحكمة في ديوانه فهو أشتات متناثرة، بعضه وليد التجربة والبعض الآخر إما مقتبس من شعر أسلافه أو متفرع عن حِكَم الإغريق وغير الإغريق ومستخلص منها... امتاز شوقي – بصفة عامة – بإشراق الديباجة ويسر الأداء ووضوح التنغيم وجمال الطلاوة، وهذه الميزات من أهم خصائصه الشعرية، وهي التي مهدت له السبيل إلى منافسة المتنبي والاستعلاء عليه في كثير من الحلبات التي استبقا فيها، وبينها حلبة الحكمة... وحين نقارن بين الشاعرين في مجال الحكمة نكاد نقطع بأن شوقي كان أغزر من المتنبي مادة وأشد أصالة وأعظم إبداعاً".
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: المعارضة في غير انفعال
وقبل أن يورد أباظة نماذج تطبيقية على تفوّق شوقي، يقول: "وما دمنا قد ذكرنا شوقي والمتنبي – وكثيراً ما يذكرهما الناس معاً – فإنني أحل لنفسي أن أزيد فأقول إن فنّ شوقي يضفي على معانيه وضوحاً يسمو بها عن كل لبس وإبهام. في حين أن المعنى ذاته عند المتنبي يتطلّب كدّ الذهن وإمعان الفكر حتى يتضح ويبين".
أباظة من القلائل الذين عُرفوا بجرأة تقديم شوقي على كل شعراء العربية وفيهم المتنبي؛ وممّا يستحق الانتباه في المقتطف أعلاه الإشارة إلى ثنائية المتنبي وشوقي على صعيد المقارنة والمفاضلة، ولعل من الواضح أن الغالبية تميل إلى ترجيح كفة المتنبي ليس بعد الدراسة المتأنّية والنظرة المحايدة بالضرورة وإنما غالباً على سبيل الانحياز إلى القديم أو إيثار السلامة – الأدبية والاجتماعية على حدِّ سواء - من باب أمان السير مع الجماعة والضمانات التي يكفلها التغريد في سربها.
وعلى الرغم من أن شوقي كان يعي جيّداً أن منافسه العنيد على عرش الشعر العربي هو المتنبي لا غير، بالنظر إلى سطوة تأثير الشاعر الأسطوري منقطعة النظير، فإن الشاعرية الفريدة لفحول آخرين لم تكن غائبة عن شوقي، فقد قال على سبيل المثال في ابن زيدون:
أنت في القول كلّه * أجمل الناس مذهبا
بأبي أنت هيكلاً * من فنون مركّبا
شاعراً أم مصوِّراً * كنتَ أم كنتَ مطرِبا
ترسل اللحن كلّه * مبدعاً فيه مغربا
أحسن الناس هاتفاً * بالغواني مشبّبا
وفي أولى صفحات كتابه "أبي شوقي" يقول حسين شوقي: "كنا نقطن المطرية، إحدى ضواحي القاهرة المتطرفة، كانت لنا هناك دار واسعة تحيط بها من كل جانب حديقة فسيحة، وقد أطلق عليها أبي اسم كرمة ابن هانئ (العباسي)، أي أبي نواس، لأن أبي كان معجباً بهذا الشاعر الذي لم ينل حظه من الدراسة العميقة مع الأسف الشديد، كما أن الأساطير جعلت منه شاعراً ماجناً".
في المثالين أعلاه، لم يكن أمير الشعراء معجباً بأبي نواس ومشيداً بابن زيدون على سبيل المجاملة الأدبية أو التهذيب في مقام أخلاقي/ديني على نحو ما فعل مع البوصيري كما رأينا فيما سمّيناه "التواضع المتكلّف". في المقابل، لم يكن أمير الشعراء يعني بحال أن أيّاً من الاثنين – ابن هانئ أو ابن زيدون – أشعر منه، وإن يكن قد اتّخذ موقفاً أشدّ حدّة تجاه المتنبي فلم يعمد إلى أية مجاملات عابرة بل جاءت مصادمته حادّة في ذلك السياق إذ قال:
وَلي دُرَرُ الأَخلاقِ في المَدحِ وَالهَوى ** وَلِلمُتَنَبّي دُرَّةٌ وَحَصاةُ
وبرغم أنه قال ذلك في بواكير حياته الأدبية نسبياً، فإن هذا لا يعني أنه تراجع بعدها عن النظر إلى المتنبي بوصفه أدنى منه منزلة فنّية وإن سما عليه من حيث الشهرة والتأثير، بل الأرجح أن نزق الشباب لدى شوقي قد أفصح عمّا يمكن أن يكون وقار الكهولة وحكمة الشيخوخة قد أفلحا لاحقاً في كتمانه.
مهما يكن، وبصرف النظر عن الجدال الدائر حول أيهما أشعر، رغم نزوعي إلى الجزم بالأفضلية الواضحة لأحمد شوقي، ودون إغفال إمكانية دخول فحول آخرين إلى حلبة المنافسة على لقب الأشعر في تاريخ العرب؛ بكل ذلك في الاعتبار، نعود إلى عنوان هذا المقال للإجابة على السؤال الذي يثب منه: ما هي عيوب المتنبي التي تلافاها شوقي؟
أغرق المتنبي في ذاتيّته، وللمفارقة كان ذلك من أبرز بواعث نبوغه وشهرته كما أشرنا ونحن نفتّش في قلبه في كتاب مخصوص؛ لكن من الناحية الفنية الصرفة أضاع إغراق أبي الطيب المفرط في ذاتيته عليه فرصة الإبحار في أغراض وعوالم الشعر المتعددة التي كان من شأنها أن تزيد ديوانه عمقاً ورحابة، نوعاً وكمّاً؛ فحتى من بين أغراض شعرنا الكلاسيكي أوشك المتنبي ألّا يغادر متردَّم المدح والفخر والهجاء، والأدعى للانتباه أنه كتب في تلك الأغراض – وحواليها – بعبقرية واضحة، ولكن – في الوقت نفسه – بما حجب عنه العديد من موجبات تفجير عبقريات أدبية إن لم يكن في أغراض شعرية جديدة فعلى الأقل في الأغراض المكررة نفسها ولكن بمنأى من النظر إلى ذاته – على نحو مباشر أو شبه مباشر - باعتباره مركز الوجود.
كان المتنبي مثقّفاً، بل ربما عميق الثقافة، ولكن بالنظر إلى معايير عصره بطبيعة الحال؛ وعليه فإنه ليس تقصيراً منه بقدر ما هي إفادة مقيّدة بأحكام الزمان: أن تكون ثقافة شوقي أوسع وأعمق بما لا يقارن مع ما أتيح للمتنبي أن يقبسه في زمانه. وإذا لم يكن بوسعنا أن نلوم المتنبي على ذلك، فمن الواجب أن نثني على شوقي في السياق ذاته، فالزمان لم يكن كفيلاً وحده بأن يجعل ثقافة مجايليه من الشعراء ترقى إلى ما بلغه هو، والأهم أنه حتى بالنسبة إلى مجايليه الذين اتّسموا بعمق ثقافتهم ورؤيتهم – خليل مطران مثالاً – فإنهم لم يبلغوا في توظيف تلك الثقافة العميقة شعرياً نحو ما بلغ الأمير؛ وذلك من أبرز أركان الموهبة: القدرة على توظيف المكتسبات الأدبية وغير الأدبية لخدمة الناحية الفنية الخالصة.
الاثنان كانا بالغَي الانتباه إلى عبقريّتهما الشعرية وتفوّقهما على الآخرين من حولهما، ولكن شوقي كان أشدّ يقظة على هذا الصعيد، فهو لم يدع ذلك الانتباه يشغله عن انتباه لا يقلّ أهميّة، بل يزيد، ممثّلاً في تعقّب ما يجب فعله تجاه العوامل الأخرى المؤثّرة في حظوة الذيوع؛ أمّا الأهم على الإطلاق في هذا السياق فهو انتباه شوقي إلى ما من شأنه أن يعمل باستمرار على مزيد من الصقل لموهبته وتطوير مشروعه الإبداعي؛ فإذا كنتَ الأفضل لا يزال بإمكانك أن تتفوّق على نفسك لتجعل السقف أشدّ علوّاً على من يأتي بعدك محاولاً مزاحمتك على القمّة بالإفادة من عصر متقدّم بعلوم ومعينات إبداع لم تكن متاحة في عصرك. شوقي كان بالغ الانتباه إلى ذلك، فظلّ يتجاوز إنجازاته الذاتية باستمرار، سواءٌ بتدارك نقاط ضعف سابقة أو افتراع نقاط قوة بتجديد معنوي أو أسلوبي مع كل عملية إبداعية مهما يكن حجمها وطبيعة بواعثها.
أشرنا في "التفتيش في قلب المتنبي" إلى معايبه التي وقف عندها كثيرون من أبرزهم أبو منصور الثعالبي في "يتيمة الدهر"، وإن كنّا في ذلك المقام – تحت عنوان براعة المتنبي في معايبه – قد انتصرنا لشاعر العربية الأشهر لكونه برز رغم تلك المعايب، بل تحت أضوائها. ولعل استخدام الضرائر الشعرية التي تجوز للشاعر دون غيره على الصعيد الأدبي عربياً - بل والأخلاقي أيضاً – لم يكن فقط مما يكثر منه المتنبي نسبيّاً وإنّما ممّا يبدو الرجل كما لو كان شديد الإصرار عليه رجوعاً إلى ما يراه امتيازاً مستحقاً، وأحياناً استناداً إلى مرجعيات لغوية لا ترى أصلاً تلك بمثابة الضرورات الشعرية وإنما "لغة" لدى هذه القبيلة أو تلك في هذا الموضع وذاك.
شوقي ترفّع عن الاستسلام إلى سهولة الضرورات الشعرية وقاوم على نحو داعٍ إلى الإعجاب الامتياز الممنوح حبّاً وكرامةً لكل الشعراء على حدّ سواء، فأفاد بذلك أيّما إفادة إذْ خرجت ديباجته ناصعة وأنهاره الشعرية متدفقة في سلاسة من الصعب أن ينكرها حتى ألدّ خصومه.
وإذا كان أحمد محفوظ قد أشار إلى أن شوقي كان يعرض مسرحيّاته على المختصّين لتدارك مشاكلها الدرامية في حين لم يكن يعرض شعره الغنائي على أحد قبل نشره لثقته المطلقة، مما تسبّب في زلّات عروضية ولغوية لم يكن يقرّ بها الشاعر مبرّراً ذلك بأنه يجدّد؛ إذا كان حال شوقي في هذه الناحية كذلك، فإن المتنبي كان كما أشرنا أشدّ مكابرة في الإقرار بأي خطأ، بل بدا كما لو كان مستعداً لإعادة ارتكاب الخطأ ذاته ليس لأن هذا صنيع يدخل في باب التجديد وإنما لأنه يرى نفسه المرجعية التي يجب أن يستند إليها الآخرون لا العكس؛ وبذلك فإن أبا الطيب لم يكن كسولاً إزاء ما أخذه عليه النقّاد من معايب قدر ما كان متعالياً ومصرّاً على المضي في الإنكار والتعالي إلى أبعد الحدود؛ هذا في حين ظلّ شوقي يعمد باستمرار ما وسعه الأمر إلى كل خطوة استباقية من شأنها أن تقيه غوائل الدفاع عن كبريائه الأدبي بتبرير لغوي مختلق أو مزاج نفسي بالغ التعنّت.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])