عمرو منير دهب يكتب: تجلِّيات الثقافة الموسوعيةً

"كان حافظ رحمه الله شاعر الشعب بأوضح وأوسع ما يمكن أن يكون لهذه الكلمة من معنى، وإذا حاولنا شيئاً من الموازنة بين حافظ وشوقي فليس من شك في أن شوقي قد كان أعمق ثقافة من حافظ، وليس من شك في أن شوقي كان أخصب ذهناً وأذكى قلباً وأنفذ إلى معاني الشعر وإلى دقائقه من حافظ، وليس في ذلك شيء من الإرادة، فقد أتيح لشوقي من وسائل النمو الذهني ورقي الذهن ودقة الحس ما لم يُتَح لحافظ". هكذا تحدث طه حسين في مقدمة مقال عن حافظ إبراهيم ضمّه كتاب بعنوان "تقليد وتجديد"، نقلاً عن نسخة على الإنترنت عن مؤسسة هنداوي في وندسور بالمملكة المتحدة والقاهرة بمصر سنة 2017.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: شوقي مقاليّاً وروائيّاً

عميد الأدب العربي كان على الأرجح في ثنايا مقارناته بين شوقي وحافظ منحازاً عاطفياً للأخير، وهو انحياز مفهوم بحكم الأصول المصرية الخالصة والنشأة في بيئة هي أقرب للفقر منها للغنى كما يذكر الرجل في وصف حافظ أوَّلَ الفقرة الثانية من مقاله موضع الاقتطاف أعلاه. شوقي وحافظ، كما أشير مراراً، ثنائي مصطنَع لا مجال للمقارنة بين طرفيه من وجهة مبررة منطقياً سوى من باب المفارقة في النشأة والميول، وذلك أساساً مبعث ابتداع تلك الثنائية، فمخترعوها لم يكونوا سذّجاً من الناحية الفنية بحيث لا يدركون الفارق الكبير بين الشاعرين بقدر ما كانوا توّاقين إلى الزجّ بشاعر يشوّش عبقرية شوقي التي كانت في بداياتها مكرّسة تماماً لصالح القصر والحاكم على حساب البلد والشعب، وكان حافظ هو النموذج الأمثل المتاح لأنه شاعر لا يخلو من الرفعة الفنية على كل حال، ولأنه – وهذا هو الأهم الذي لم يغفله كثيرون – ينظم شعراً داني القطوف يدغدغ عميقاً مشاعر الجماهير بسهولة ومباشرة.

بعيداً عن حافظ إبراهيم، هل اتّسمت ثقافة شوقي بالعمق فقط؟ لقد كان الأمير عميق الثقافة لا ريب، لكن ذلك لم يكن فقط ما ميّز ثقافته التي كانت بموازاة عمقها موسوعيّة بصفة داعية إلى الإعجاب؛ والأهم أنه كان يعرف كيف يدع تجلّيات تلك الثقافة تنساب في شعره دون أيّ قدر من التكلّف في إظهار البراعة. أمّا أن لا يكون "في ذلك شيء من الإرادة" فليس هذا ممّا يعيب شوقي، فمواهبنا وإنجازاتنا كلها حظوظ رُزقناها مهما ندّعِ من الفضل في اكتسابها وتحقيقها.

يضرب شوقي ضيف، في "شوقي شاعر العصر الحديث"، مثالاً رائعاً على مرونة أمير الشعراء في مدّ أطراف ثقافته وتعميقها إفادة من الظروف التي تحيط به ولو كانت في قسوة النفي والتضييق الشديد ماديّاً في المنفى بعد سعة العيش ورغده في أحضان الوطن وظلال قصوره الوارفة؛ يقول ضيف: "ومن يقرأ هذه القصيدة (يشير إلى: اختلاف النهار والليل يُنسي ** اذكرا لي الصبا وأيام أنسي) يرى شوقي قد حاز لنفسه ثقافة تاريخية عميقة بالأندلس وأمجاد العرب فيها وحضارتهم ونهضتهم بقرطبة حتى كانت منارة أوروبا لأواخر عصرها الوسيط. ولم يكتف شوقي بالتعمّق في قراءة تاريخ العرب في الأندلس، فقد عُني أيضاً بقراءة شعرائهم ودواوينهم. وكانت أوقات الشاعر فارغة لمدة خمس سنوات، فقرأ كثيراً عن الأندلس، وملأ وعيه ولاوعيه بتاريخ أبطالها وشعرائها".

لا أستطيع مقاومة إغراء المقارنة مع حافظ المسكين، وليعذرني عشاق الشاعر الكبير، فتلك الثنائية الشهيرة كثيراً ما تدفع الواحد دفعاً إلى المقارنة على سبيل تأمّل المفارقات. في "حياة حافظ إبراهيم"، عن مؤسسة نصار للتوزيع والنشر بالقاهرة (تاريخ النشر ليس مثبتاً في الكتاب)، يقول أحمد محفوظ: "وكانت باريس أحق (من إيطاليا التي وصفها الشاعر أثناء رحلته بالباخرة) بتلك الخلجات لأنه عاش فيها شهرين واختلف إلى مطعم البط الشهير هناك فكان يأكل نصف بطة، وغيره من المترددين على هذا المطعم كانوا لا يتجاوزون الربع أبداً، لغلاء ثمن البط في هذا المطعم العالمي المعروف في الأوساط الأرستقراطية كلها في العالم، ولم يزر حافظ قبر فيكتور هوجو المقام في البانثيون، حيث مقابر عظماء فرنسا؛ لم يزر قبر الرجل الذي بفضله وجبت له هذه الرحلة (التي أعدّها بالمال الذي حصله من ثمن كتابه البؤساء السفر الثاني) إلا بالإلحاح الشديد من صديقنا رامي الذي كان يطلب العلم في باريس. ولم يشهد هناك شيئاً تذوب على مرآه أنفس السائحين لهفة. لم يشهد برج إيفل، ولم يزر قصر فرساي، ولم ير متاحف باريس ولا مسارحها ولا قصورها ولا معالمها التاريخية".

وقبلها، حتى عشّاق حافظ كانوا ينعون عليه أنه حين عمل بدار الكتب لم يحفل بقراءة ما تكدّس حوله من الأسفار الثمينة التي ابتُدِعت على مرّ القرون. لا أستطيع – وقد جررتُ حافظ إلى المقارنة مجدداً – أن أقول مرة أخرى "بعيداً عن حافظ"، ولكن سواء إزاء حافظ أو غيره من الشعراء الأعمق ثقافة من طراز خليل مطران، تتجلّى ثقافة شوقي فريدةً في كل جوانبها: العمق، التنوّع، الامتداد العابر للقرون، الاتّساع الشامل، الموضوعية إلى حدّ بعيد، الاستخدام الموفَّق مراعاة لمقتضى المقام، الانفتاح المستمر، والأهم: الانسياب السلس في قصائده عبر مختلف المقامات؛ ذلك على سبيل المثال بطبيعة الحال.

وعلى سبيل المثال العابر لتجلّيات ثقافة الأمير الموسوعية التلقائية، نقف على هذا البيت من همزيّته النبوية الشهيرة:

أنت الجمال بها وأنت المجتلي * والكف والمرآة والحسناء

ذلك إقحام سلس بديع - وربما مراوغ حتى في تأصيله البلاغي - لأسطورة المرآة التي تخبر عن أجمل الحسان، دون إيغال في تفاصيل القصة الأسطورية اكتفاءً بإيراد الكلمات الثلاث في عجز البيت. غير أن الأهم هنا هو الطرافة المتجلية في الجرأة البالغة ربطاً بين حالة نبوية بالغة التبجيل وقصة خيالية على الطرف النقيض من القداسة، ووجه الشبه واحد لا غير: الغاية القصوى من الجمال المحسوس؛ ولنتذكر أنها أيضاً مقارنة لجمال ذكوري بآخر أنثوي، ما يضفي على التعبير الشعري أبعاداً مضاعفة من الجرأة والروعة. كل ذلك لا يمرّ دون عثرات فحسب، وإنما مستساغاً ومستحسناً في الغالب حتى لدى المتشدِّدين في النأي بتشبيه جلال الطهر النبوي معنوياً بغيره من أنماط الطهارة البشرية، دع عنك ما هو مادي صرف من قبيل الجمال الإنساني شكلاً لا روحاً وموضوعاً.

ذلك كما أشرنا مثال جدّ عابر، فالتجلّيات البديعة لسمات ثقافة شاعرنا الموسوعية الفريدة تتبدّى على كل صفحة من ديوانه، بل تكاد تطلّ من كل بيت في كل قصيدة.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])