جاءت توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخيرة بشأن وضع خارطة طريق للإعلام المصري لتعيد التأكيد على حساسية هذا الملف والاحتياج المستمر للوقوف أمام ما تم بناؤه ودراسته وتطويره، من خلال تفادي الثغرات والبناء على المنجز المتحقق بالفعل، من أجل ضمان قيام وسائل الإعلام المصرية بدورها على أكمل وجه، وهو الدور الذي تتعاظم أهميته مع تتالي المعضلات السياسية والاقتصادية التي تتصاعد في الإقليم منذ ما جرى في 7 أكتوبر 2023، بجانب المشكلات الداخلية وفي القلب منها الأزمة الاقتصادية حيث مؤشرات التعافي بدأت في الظهور، لكن المشوار ما زال طويلاً والرياح المضادة لا تتوقف عن الحركة، فمنذ يوليو 2013 والحملات الإعلامية السلبية التي تطال مصر لا تهدأ حتى وصلنا إلى صناعة فيديوهات بالذكاء الاصطناعي يوهم أصحابها المتابعين بأن الوضع في البلاد غير مستقر.
(1)
بناء على ما سبق فإن وضع خريطة لتطوير الإعلام المصري يتطلب أولًا طرح سؤال رئيسي: أين الإعلام المصري الآن؟ ومن بعده إلى أين يجب أن يتوجه؟
(2)
المتابعون للملف منذ ثورة يناير ثم ثورة يونيو وما بعدها، ربما لديهم الإجابة على هذا السؤال، لكن الذين يحكمون على الأمور بالنظر أسفل أقدامهم ربما تكون لديهم تصورات مغايرة من المهم تصحيحها وإفساد منطقها الذي يعتمد على الحب والكراهية، على مشكلات فردية، وآراء في شخوص بعينهم، وهو أمر يمكن أن يكون مقبولًا من رجل الشارع العادي، وليس من خبراء متخصصين أو عناصر محترفة في سوق هو الأصعب في مصر لأسباب يعرفها الجميع، سوق الإعلام والصحافة وما يجاوره من أسواق للدراما والسينما وغيرها من فنون القوى الناعمة.
رجل الشارع العادي لو رفض إعلاميًا أو قناة، يظل على موقفه المعلن لسنوات، رغم أنه في منزله ربما يتابع نفس القناة وقد يحصل على معلومات من نفس المذيع الذي يكتب على الفيس بوك أنه ضده ولا يطيق رؤيته، لكن العاملين في المجال والمهتمين حقًا بتطويره، في ظنّي، هم مطالبون بأن تكون النظرة أوسع كثيرًا مما هي عليه دائمًا.
(3)
بعد ما جرى في يناير 2011، بات واضحًا أن الإعلام الحكومي المسئول عنه ماسبيرو من جهة والصحف القومية من جهة أخرى لم يعد قادرًا على استعادة ثقة الجمهور، ودخلنا في سنوات من الفوضى غير الخلاقة، قنوات بدون تنظيم، تمويلها معظمه من رجال أعمال، تضارب في المصالح أدى لظواهر غير مسبوقة، وجوه غير مقبولة، ولنا خير مثال في مستوى المسلسلات المصرية خلال تلك الفترة عندما كانت كل قناة تجتذب نجم أو اثنين يفعلون ما يريدون في كل مسلسل، وسط معركة نسب مشاهدة لا تهتم بأي قواعد أو أخلاقيات.
في تلك الفترة خبراء كُثر أكدوا أن "ماسبيرو" بحاجة لعملية إنقاذ شبه مستحيلة، فيما الصحف القومية فشلت في العودة وافتقد معظمها لآليات مواكبة لغة العصر الحالي، بينما الصحف الإلكترونية الأخرى دخلت في حرب الترافيك والريتش و"شاهد قبل الحذف".
(4)
تزامن كل ما سبق مع الإرهاصات الأولى لتكوين الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، ونمت بتوسع غير مسبوق أو متوقع على مدار ثماني سنوات، بدأت بدخول عدة قنوات وصحف تحت لوائها، قبل أن تضيف علامات تجارية أخرى لتصبح أكبر كيان إعلامي في المنطقة العربية، حيث تمتلك 46 شركة، 17 قناة، 12 موقعًا إخباريًا، 6 محطات راديو، ووسط اعتراضات على أن هذا الكم من الشركات والقنوات قد يحد من المنافسة، وهو اعتراض مقبول بالطبع، لكن في الوقت نفسه لم يطرح أحد السيناريو المعاكس، أنه في ظل ظروف السوق الاقتصادية وما حدث لتحرير سعر الصرف، وفي ظل رغبة غالبية المصريين في متابعة محتوى مناسب لهم ولأطفالهم، لم تكن العديد من وسائل الإعلام الموجودة قبل 2017 لتصمد بالأساس، والأهم من ذلك أن النموذج المنتقد منذ انطلق هو نفسه الموجود في دول خليجية عادة ما نتكلم عنها بإعجاب دون أن نعترف لأنفسنا أن الأسلوب واحد لكن "زامر الحي لا يطرب"، وهناك من يعلم أن هناك ثلاث دول هي الأردن والكويت والبحرين طلبت استنساخ تجربة الشركة المتحدة، وهناك من يدرك أيضًا أنه لم تكن لتشهد مصر منصات لإنتاج الأفلام الوثائقية أو منصة رقمية لعرض المحتوى أو منصة لعرض برامج الأطفال أو قنوات دينية وسطية إلا لو كانت ممولة حكومية، والتكرار سيكون مملًا عندما نتكلم عن إطلاق قنوات إخبارية فهذه بالطبع لن تخرج إلا لو كانت حكومية.
(5)
كاتب هذه السطور يعمل في المجال منذ 3 عقود، وتربينا على أن نكتب كل فترة تحقيقات تطالب بإنتاج أفلام حربية عن بطولات الجيش المصري، ومسلسلات موجهة للأسرة المصرية، وأعمال مناسبة للطفل، ومنصات رقمية تواجه المنافسين الأجانب والعرب، ومنصة وثائقية للقيام بالدور نفسه.
كاتب هذه السطور عاصر أوقاتًا خشى فيها جمهور وصناع الدراما المصرية من المنافسة التركية والسورية، قبل أن يتابع إعادة تصدير المسلسلات المصرية وانتشارها مجددًا في السنوات الخمس الأخيرة.
(6)
هل يعني كل ما سبق أنه لم تكن هناك أخطاء؟ الإنصاف يقول إنها موجودة، لكن المطلوب ونحن نبحث عن السؤال الثاني "إلى أين يذهب الإعلام المصري؟" أن ننظر حولنا اليوم ونحن في صيف 2025 ومع تواصل التهديدات التي تحيط بالبلاد ولنا في تصريحات إسرائيل الكبرى خير مثال، أن ننظر إلى "أين يقف الآن الإعلام المصري؟".
حالة واضحة من التراجع على مستوى المحتوى، والأهم على المستوى المعنوي بين العاملين في القطاع ككل.
الدورة الثالثة لمهرجان العلمين مستمرة دون أدنى مقارنة بما جرى في الدورتين الأولى والثانية، وهذا حدث وحيد، بجانب فعاليات أخرى أما أُلغيت أو تقام في أضيق الحدود، جوائز ومنتديات ومهرجانات لم يعد صداها مسموعًا، مئات العاملين في الصناعة يبحثون عن فرص أخرى، والأخطر هؤلاء المستقطبين من إعلام منافس ربما لن يستخدمهم ضد البلاد فهم أناس وطنيون عكس هؤلاء المستخدمين من إعلام الإخوان بعد سقوط محمد مرسي، لكننا سنفقد إمكانات وخبرات سنحتاج لسنوات لتعويضها، تمامًا كما يحدث مع الأطباء والمهندسين، هجرة الكفاءات الإعلامية المصرية في الشهور الأخيرة ناقوس خطر إذن يضاف إليه أن كل الجهود المبذولة والمحمودة لإعادة إحياء ماسبيرو لا تزال في طور "النوايا الحسنة".
(7)
ماسبيرو الآن يحاول حل "مشكلة المعاشات" بعد تدخل الرئيس، دلالة واضحة لا تحتاج لتأويل، المبنى العريق يئن بإرث يحتاج لسنوات حتى يتخلص منه أولًا قبل أن يقدّم لنا إعلامًا يستقطب جمهور الجيل الحالي من المصريين، وأسأل المتابعين إن كان لديهم رد، ما المحتوى الإعلامي الفارق الذي خرج من ماسبيرو بعد التغييرات الأخيرة، نحن مع المبنى العريق وندعمه ونعلم أنه لو استفاد فقط من الحقوق الرقمية لتراثه سيحصل الملايين من الجنيهات سنويًا، لكن هل عودته الحقيقية قريبة؟ هل يمكنه أن يقدم محتوى مناسبًا لجمهور يعرف أخبار السياسة من الفيس بوك وتيك توك؟
هذه الأسئلة يمكن أن تمتد إلى الصحف القومية التي تعاني من معضلة "ملف المؤقتين"، والتي كان من الممكن أن تُحل لو توافرت إرادة حقيقية وتعاون مع مجلس نقابة الصحفيين الذي لولا تدخل الرئيس أيضًا ما حصل أعضاء النقابة على زيادة البدل، فيما ملفات أخرى باتت مجمدة خصوصًا على المستوى الإجتماعي بعد متغيرات طالت أيضًا نقابة الممثلين، حيث كان الدور الإجتماعي للمتحدة واضحًا مع العديد من الجهات النقابية، بهدف وحيد أن يظل العاملين في قطاع الإعلام في مصر على ثقة أنهم في أمان وأنّ القادم أفضل.
(8)
أين يذهب الإعلام المصري؟
يجب أن يذهب إلى تعددية تقف على أرضية وطنية، الحفاظ على ما تم انجازه وعلى كيان كبير بحجم المتحدة، واعادة احياء ماسبيرو بإطلاق محتوى مناسب واحترام حقوق موظفي القناة الأولى المنتدبين من خارجه، وليس بتغيير أسماء الاستديوهات والقنوات فهذه مرحلة تأت بعد الإنتاج لا قبله .
يجب أن يذهب الإعلام المصري إلى تدعيم كل المنصات، حكومية وغير حكومية، مزيد من التدريب وسقف حرية أعلى والتأكيد على استعادة ثقة الجمهور الذي نراه يتابع صفحات النائب العام ووزارة الداخلية باهتمام، فيما يشكك في معظم ما تنشره صفحات الأخبار، هذه مفارقة تستحق الوقوف أمامها، ليس بالتقليص والتوفير وإنما بالتطوير والتغيير.
(9)
أكره هذه المقارنات جدًا، أكره أن أقول انظروا كيف استفادت قطر خلال طوفان الأقصى مما تقدمه الجزيرة، وكيف عبّرت دول أخرى عن وجهة نظرها من خلال شاشات مماثلة وكل هذا دون أن نرى إعلانًا واحدًا على تلك القنوات، لأنه من البديهي أن تكون القنوات الإخبارية المصرية محلية وإقليمية في مكانة أفضل دون الحاجة للكلام عن أهمية الإنفاق الحكومي عليها، وأيضًا دون التأكيد على أن أي إنفاق غير رشيد يجب تقويمه، أما "اللا إنفاق" و"التقشف" فنتائجه ستكون سلبية على الجميع.
الإعلام المصري يحتاج وهو يكتب خارطة طريق للاستفادة ليس من دروس الماضي، وإنما من دروس الحاضر، للبناء على ما تم، لا الهدم من أجل أهداف لن يكون من بينها - في ظل هذه الظروف - تشييد بناء جديد.