عمرو منير دهب يكتب: شوقي مقاليّاً وروائيّاً

"سَلِ الشمسَ مَن رَفَعها ناراً، ونَصَبها مناراً، وضرَبها ديناراً، ومن علَّقها في الجوِّ ساعة، يدِبُّ عقرباها على (إلى) يوم الساعة؟ ومَن ذا الذي آتاها مِعراجها، وهداها أدراجَها، وأحلَّها أبراجَها، ونقَّلَ في (ال) سماء الدنيا سراجَها؟ ومَن الذي وكَّلَها بهذه الكُرة، وشَغَلها بهذه الدَّسْكَرة، حتى اتَّخَذَتْها مَجَرَّ ذيلها، وتصرفَتْ بنهارها وليلها؛ تَنهَضُ في السماء مُستملَحة، وتمشى على الأرض مُصلحة، وتغدو منْجحَة، وتروح مُرْجحَة؛ كلُّ إياة، حياة أو ائتناف حياة، وكلُّ شُعاع، صانع صَنَاع، وكلُّ رائد، مالٌ فائد، وخيرٌ رائد (زائد)؛ هي المصباح الأنْوَر، والِمغزِل الأدْوَر، والمِرْجَلُ الأزْهَر، والصَّباغُ الأمْهَر، والرَّاوُوق الأطْهَر، والطبيب الأقدر الأشهَر. الزمانُ هي سبب حصوله، ومُنْشَعَبُ فروعه وأصولِه، وكتابُه بأجزائه وفصوله؛ وُلِدَ على ظهرها، ولعب على حِجْرها، وشاب في طاعتها وبِرّها؛ لولاها ما اتَّسقتْ أيامُه، ولا انتظمتْ شهورُه وأعوامُه، ولا اختلف نورُ وظلامُه".

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: شوقي مسرحيًّا

هذه قطعة نثرية تحت عنوان "الشمس" من كتاب شوقي "أسواق الذهب"، نقلاً عن نسخة على الإنترنت عن مؤسسة هنداوي في وندسور بالمملكة المتحدة والقاهرة بمصر سنة 2010؛ والاستدراكات بين القوسين الكبيرين إمّا لاختلاف ورد في مصدر آخر وإمّا لما ظنّناه خطأ مطبعياً في نسخة مؤسسة هنداوي.

قبل التعليق، ليس على المقال أو الكتاب مجملاً وإنما علي شوقي مع المقالة والرواية كما يشير عنواننا، لِنَغُصْ أكثر في أجواء الكتاب وذلك بالارتداد إلى مقدّمته العميقة التي يقول فيها الأمير: "وبعدُ؛ فهذه فصول من النثر، وما زعمت أنها غُرَر زياد، أو فِقَر الفصيح من إياد، أو سجع المطوَّقة على فرع غصنها الميّاد، ولا توهمت حين أنشأتها أني صنعت أطواق الذهب للزمخشري، أو طبعت أطباق الذهب للأصفهاني، و(إنما) سمّيتُ هذا الكتاب مما يشبه اسميهما، ووسمته بما يَقرُب في الحسن من وسميهما؛ وإنما هي كلمات اشتملت على معان شتى الصور، وأغراض مختلفة الخبر، جليلة الخطر؛ منها ما طال عليه القِدم، وشاب على تناوله القلم، وألمّ به الغُفْل من الكُتّاب والعَلَم. ومنها ما كثُر على الألسنة في هذه الأيام، وأصبح يَعرِض في طُرُق الأقلام، وتجري به الألفاظ في أعنّة الكلام".

يأتي الأمير بعد ذلك مباشرة في المقدمة على بعض العناوين التي تطرّق لها في أسواق ذهبه، والمواضيع التي تدلّ عليها تلك العناوين تشير أوّلَ ما تشير إلى سعة آفاق شوقي بما يكاد يشمل تأمّل واستيعاب شؤون الحياة كافةً؛ وقد جاءت تلك المواضيع تحت ما يقارب الخمسين عنواناً من قبيل: الوطن، قناة السويس، الذِّكرى، الموت، دعاء الصلاة العامة، الخير، الظلم، القلب، شاهد الزور، شهادة الدراسة وشهادة الحياة، اللسان، المال، الأمس، اليوم، الغد، المسجد الحرام، الزكاة، خطيب المساجد، الطلاق، الأسد في حديقة الحيوانات، الكاتب العمومي، الحياة وهْمٌ ولعب، النقد، الزهرة، الشيخ المهندم. ذلك على سبيل المثال بطبيعة الحال.

ولأن الأمير كتب هذه النصوص على مدى حوالي ثلاثة عقود كما قيل عنه في أكثر من بحث وموضع (هو يشير في المقدمة فقط إلى أنه كتبها في أحوال متقلّبة من الزمان، سواءٌ بالنسبة إلى أحداث الحياة العامة أو بالنظر إلى حاله هو ومزاجه الشخصي)، فقد كان طبيعيّاً أن تختلف النصوص النثرية تلك طولاً وتتباين طبيعة فنية وعمقاً فكرياً.

وإذا قال الأمير "وما زعمت أنها غُرَر زياد، أو فِقَر الفصيح من إياد"، مشيراً إلى زياد بن/ابن أبيه وقسّ بن ساعدة الإيادي، فليس في وسعي أن أزايد على تواضعه - كما أفعل عادةً في تقييم إبداعه الشعري – فأقول بأنه تجاوز في نثره كلّاً من زياد وقسّ وسما في أسواق ذهبه على أطواق ذهب الزمخشري وأطباق ذهب الأصفهاني، ولن أذهب إلى إثبات العكس متكلّفاً بالضرورة؛ وإن كنت أميل إلى ترجيح كفة أولئك جميعاً في النثر على الأمير، لا لشيء سوى أنهم ابتدعوه تلقائياً استجابة لدواعي زمانهم على تعدّدها واختلافها، فكانوا – إجمالاً وعلى سبيل المثال – أشدّ أصالة من الأمير الذي أنشأ أسواق ذهبه على سبيل التحدّي الأدبي، بل التحدّي اللغوي تحديداً.

لم تخذل اللغةُ الأميرَ، ولم يخذل هو عشاقه من حيث سيطرته على اللغة وتفنّنه بأدواتها؛ لكنه أغرق أولئك العشّاق في بحور من السجع كان في بحور الشعر وقوافيه غنى عنها بالنسبة لأولئك العشّاق لا ريب؛ فمِن أظهر عيوب السجع عندي أنه يمنح القارئ إحساساً بترقّب روعة الموسيقى النابعة من أوزان/بحور شعرنا الغنائي الكلاسيكي، ثم لا يلبث القارئ أن ينخذل بانعدام تلك الروعة الموسيقية اكتفاءً بجناس لفظيّ لا تعدمه القصيدة العربية التقليدية مع الرويّ والقافية كما هو معلوم؛ وذلك بحيث لا يتبقّى عند النظر إلى النص النثري المسجوع سوى كونه منزلة أرقى موسيقياً من النثر المطلق ودون القصيدة العربية الكلاسيكية؛ وإن يكن جديراً بالانتباه أن ذلك يحدث فقط بالنظر إلى الموسيقى الخارجية، أمّا إدخال موسيقى النص الداخلية في الاعتبار فسيفضي في الغالب إلى ترجيح كفة النثر المتحرّر من أغلال السجع على كفة نظيره المستمسك بسطوة تلك الأغلال.

وإذا كان واضحاً أن معاني شاعرنا تبدو في نثره المسجوع عميقة، فإن معاني أشدّ عمقاً كانت على الأرجح ممكنة لو أعفى الأمير نفسه من بهلوانيّات السجع التي لا تمنح النصوص النثرية/المقالة الحديثة من الجمال بقدر ما تأخذ منها من العمق، بل وبقدر ما تأخذ من جمالها الفني على صعيد الأسلوب أيضاً، وذلك باعتبار مقاييس الجمال والتذوّق الفني المتغيّرة بتغيّر الزمان، سواء بالرجوع إلى مختلف المؤثرات على تباينها العريض أو في ضوء الموضة/سنّة التغيير مجرّدة.

اللافت في "أسواق الذهب"، مع ما أشرنا إليه من إغراقها في السجع واختلاف مواضيعها الواضح من حيث التناول الفني معنىً وأسلوباً، أن خاتمة تلك النصوص تحت عنوان "خواطر" كانت بالفعل مِسكاً بالنظر إلى خلوّها من مطبّات السجع وإلى حداثّيتها ليس فقط مضموناً بل وأسلوباً إلى حدّ بعيد. أمّا الأشدّ لفتاً للانتباه في تلك الأسواق الذهبية فلعله – بالنظر تحديداً إلى ما أفضنا فيه من حديث عن السجع وأبعاده على العمل النثري – نصّ بعنوان "السجع" كادَ يخلو من السجع تماماً، وإن يكن الأمير ينتصر فيه للسجع معتبراً إيّاه – ضمن بضع مزايا أتى على ذكرها، وبالنظر إلى ما جاء في الفقرة قبل السابقة - سلوى "الكاتب المتفنّن خياله... عمّا فاته من القدرة على صياغة الشعر".

لم يكتب الأمير رواية بالمعنى الحديث لذلك النوع الذي بات الأشهر أدبياً في أيامنا هذه، لكنه جاء بما صُنِّف حينها على أنه روايات من قبيل "عذراء الهند" و"لادياس"، وذلك قبل أن يكتمل بناء الرواية العربية الحديثة على طراز المعمار الأدبي الغربي ببزوغ أعمال مثل "زينب" لمحمد حسين هيكل، وهي الأشهر في البدايات الروائية المصرية/العربية، بتجاوز الجدال عن كونها الأولى مطلقاً أم لا، وهي مسألة معقدة لا تعنينا بحال في هذا المقام.

مهما يكن من شأن روايات الأمير، فإنها كانت الأدنى صيتاً وتأثيراً من بين جميع فنون الكتابة التي طرقها، وإن لم تخل من القيمة الأدبية والتاريخية بطبيعة الحال.

يجيء في خلاصة/ملخص دراسة بعنوان "أمير الشعراء أحمد شوقي، نثره الفني ومنهجه"، للدكتور أحمد سعيد جان المحاضر بقسم اللغة العربية بجامعة بشاور والدكتور شمس الحسين ظهير الأستاذ المساعد (سابقاً) في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة عبد الولي خان بمردان في باكستان، يجيء ما يلي (بتصرّف غير يسير في إعادة الصياغة لتصحيح ما بدا كأنه أخطاء مطبعية/أسلوبية): "لا شك أن شوقياً ملأ فراغات في المكتبة العربية بشعره الرصين حتى اضطر العرب إلى القول بكونه رئيساً للشعر وأميراً للشعراء، كما أنه مارس النثر من بدايات حياته الأدبية بأنواع النثر المختلفة الفنية وغير الفنية، واحتشدت لديه كتيبات عدّها الأدباء ضمن أعماله الأدبية، لكن ثمة من قال بأنها غير ناضجة ولا تستحق الإشارة إليها ضمن أفضل المؤلفات. رغماً من كل هذا فإننا لا ننكر عليه فعله ولو لم يحالفه فيه التوفيق، لأن لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة، وكبوة شوقي في النثر لم تسدّ عليه جميع الطرق في الأدب بل فتحت له طريق الشعر ليتبوّأ أعلى المنازل المتمناة حتى وُضع تاج إمارة الشعر على مفرق رأسه بأيادي منافسيه الشعراء".

على الرغم من تردّدي بشأن الاقتطاف عن الدراسة أعلاه لكثرة الأخطاء الواردة فيها على نحو ما أشرنا، فإن آخر ما جاء في خلاصة الدراسة/المقال جدير بالتأمّل والتعليق؛ فأعمال شوقي النثرية لم تكن كبوة بحال إذا نظرنا إليها بصفة عامة مقارنة بتاريخ النثر العربي إجمالاً؛ لكن يصحّ أن تُرى تلك الأعمال كذلك عند مقارنتها بالإبداع الشعري للأمير، ذلك الإبداع الذي لم يكتفِ فيه بانطلاقات خارقة خالية إجمالاً من الكبوات، بل حلّق به إلى آفاق في القصيدة الغنائية التقليدية لم يسبقه إليها شاعر بحال.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])