عبد الرحمن جاسم
تعرّفتُ بزياد الرحباني، كأي شابٍ في مقتبل العمر في بلادٍ لا تعشقه فحسب، بل تقدّسه. كنا -جيل تسعينيات القرن الماضي- لا ننظر إليه بمثابة مؤلفٍ موسيقي، أو مسرحي، أو حتى كمبدع، بل بمثابة منظّرٍ ثقافي حتى ودون أن نقول ذلك. من جهتي أنا: كرهتُ كل هذا، وكرهتُ زياد، وكرهت أكثر منه كل المحاولين لتقليده واستخدام كلماته المسرحية وجمله الساخرة من كل شيء. في بداية حياتي، وهذا أمرٌ بديهي، ملتُ لليسار سياسياً، واعتبرتُه الطريق الوحيد لتحرير الأوطان والبلاد والعباد، ولأنَّ زياد واحدٌ من علامات اليسار في لبنان، استنسخ كثيرٌ من الشبان اليساريون لا كلمات زياد فحسب، بل أيضاً سلوكه، طريقته في الكلام، التصرّف، والأهم العيش. لم يعجبني الأمر، لا بل وإنني انتقدته، منذ بدايات مقالاتي الاجتماعي، السياسية، او حتى الفنية، كتبتُ ضد الأمر، واعتبرته ضحالةً فكرية قبل أي شيء.
في الوقت عينه، سمعتُ مسرحيات زياد، والتي كنا نتابعها عبر أشرطة الكاسيت، إذ إنها لم تكن موجودة على شكل "فيديو"، فكانت من التجارب الغريبة التي لايعرفها جيل اليوم، الذي وجد كل شيءٍ سهلاً. على أيامي كان من الصعب وللغاية الحصول على مسرحية لزياد الرحباني إلا بالطرق التقليدية ومقابل المال. بمعنى أن أشرطة إحدى مسرحيات زياد، لنفترض مثلاً، بالنسبة لبكرا شو، هي على ثلاثة أشرطة، كلفة الكاسيت الواحد قرابة الثلاثة آلاف ليرة لبنانية (قرابة الدولارين آنذاك)، ما معناه أنك كشاب صغير السن، لا تمتلك قدرةً مادية/شرائية، عليك أن تدفع قرابة العشرة آلاف ليرة لبنانية (قرابة الست دولارات أو أكثر بقليل) مقابل هذه الكاسيتات، التي قد "يقرضها" جهاز الكاسيت إذا ما دخله بعضُ الغبار أو ما شابه.
لم أمتلك -مثل كثيرٍ من الشبان من الطبقة الوسطى- هذا المبلغ إلا لربما في أوّل الشهر، ونظراً لأن متطلبات الحياة كثيرةً فإن الحصول على كاسيتات المسرحيات هذه ارتبط بالعلاقات الاجتماعية: أن يمتلك أحد الأصدقاء هذه الكاسيتات، فنستعيرها جميعاً وهكذا. طبعاً قد يحصل أن نستنسخها وهكذا نوفّر، لكن هناك تفصيل صغيرٌ لن يعرفه إلا من عاش المرحلة: الافتتان بالغلاف -غلاف الكاسيت الأصلي- والصورة عليه، والتفاصيل المكتوبة في الخلفية وما شابه. لهذا الأمر قلةٌ قليلة استنسخت الشرائط، فيما فضّل المعظم الحصول على النسخ الأصلية. سمعتُ مسرحيات زياد، وحفظتها، فعلياً حفظتها، لغةٌ سهلةٌ سلسلة فيها الكثير من الابداع والمهارة والأهم من ذلك الفن الغاضب المشابه لما كنت -كشابٍ ولا أزال- أشعر به.
سمعتُ "جاي مع الشعب المسكين" أسطورة زياد الخالدة التي يحكي فيها كيف وقوفه المطلق مع هؤلاء المساكين الذين "عم بيموتوا ولادن جوعانين"، كنتُ أتأثر بكل كلمةٍ يقولها صديق زياد الأثير وأهم الأصوات التي أدت معه وله الراحل جوزيف صقر. صقر والذي للمفارقة كنتُ من القلائل الذين شاهدوه قبل رحيله المفاجئ- إذ إنني شاهدته بالقرب من إذاعة صوت الشعب -وهي إذاعة الحزب الشيوعي اللبناني- التي دأب زياد وجوزيف على تسجيل حلقات وأغنيات واعمال فيها ولها. كان متعباً، منهكاً، مع هذا لم يتوانى على الوقوف مع شابٍ صغيرٍ سأله عن فنه. لم نتحادث كثيراً إذ إنه تنفس بصعوبة، فلم أتجرأ أن أطلب منه البقاء أكثر، لكنني أذكر لطفه الشديد، أدبه الجم، وبالتأكيد إجابته على أسئلتي السريعة.
ترك رحيل جوزيف صقر أثراً كبيراً على زياد، شخصياً واجتماعياً وحتى فنياً: شابه صقر زياد تقريباً في كل شيء، حتى في أسلوبهما الساخر، ما ميز صقر هو امكانياته الصوتية فحسب عن زياد. ولا ريب أن ألبوم "مربى الدلال" المدهش الذي كان آخر الأعمال التي جمعتهما يظهر مدى مهارات الاثنين والانسجام الأكثر من عظيم بينهما. إذا كنتُ في معادلة شديدة التعقيد: كرهتُ زياد وأحببته. كنتُ أعلل الأمر-على عادة المثقفين- أنه عليك الفصل بين سلوك الإنسان، وفنه، كما فعلتُ في حالة محمود درويش مثلاً. إنما في حالة زياد -كنتُ أظلمه- إذ أنني عاتبته، ولمته لا على ما فعله، بل على ما فعله الآخرين بفنه وبما قدمه وقاله.
أذكر أحد الزملاء في الجامعة وهو من الأشخاص الذين ساهموا بشكلٍ مطلق في خلق تلك المشاعر السلبية تجاه زياد، حيث إنه لم يكن يتحدث بشكل طبيعي، بل إنه لا يتحدث إلا بكلماتٍ ومقاطع من مسرحيات زياد، بالطبع مع الحركات والزفرات الجسدية للشخصيات التي أداها ابن عاصي الرحباني وفيروز في مسرحياته. تخرجت من الجامعة، ودلفت عالم العمل، ومع هذا ظل تأثير زياد موجوداً متلاحقاً، آنذاك، انتشرت عادةٌ في اذاعات الراديو وهو استخدام "مقاطع" من مسرحيات زياد الرحباني كفواصل كلام للتعليق على الأحداث الاجتماعية والسياسية. هذا الأمر أيضاً زاد في كرهي للرجل، كرهٌ لا ذنب له هو فيه، لكنه تحمّله. التقينا خلال تلك المدّة مراتٍ عديدة لكوني أعمل في منطقة الحمرا، ولكونه يسكنها منذ زمنٍ طويل. فوجئت به أوّل مرةٍ رأيته، متوسط القامة، ممتلئ، يلبس "جيليه" قديمة، يمسك سيجارة ويدخّن في الشارع غير آبه بأحد، فيما يرتدي حقيبةً كتف رمادية ممتلئة بما لا أعلمه.
عدتُ وشاهدته مراتٍ عديدة هكذا، إلا أن التقينا للمرة الأولى، كنتُ رئيساً لأحد الأندية الثقافية "فتنطع" أحد الأعضاء وأصر على أن نحضر زياداً للغناء في حفلةٍ في الجامعة الأميركية آنذاك. ذهبنا لنقابله، ولا أعرف لماذا لم يحببنا الرجل، مع أن معظم أعضاء الوفد الذي جاؤوا معي احتفوا به أيما حفاوة. أجلسنا زياد ولأكثر من عشرين دقيقة حدثنا عن "منفضة" السجائر. بعد أكثر من عشر سنوات فهمت أن هذا هو أسلوبه حينما لا يريد القيام بشيء ما، هو لم يرغب بأن يرفض "دعوتنا" بشكل مباشر وعلني لربما كي لايكسر خاطرنا. كانت تلك طريقته. زادني الأمر كرهاً على كره. فكتبت مقالاً نشرته في إحدى الصحف سخرتُ فيه من الواقعة، وكيف أنه أضاع وقتنا، طبعاً لم أفهم آنذاك -وحتى في المقالة- لماذا فعل ذلك واعتبرته قلة أدب. آنذاك كان زياد قد قدّم مسرحياته الجديدة، التي لم أكن قد شاهدتها بعد، وما أن بدأت مشاهدتها، لم أتحملها، إذ توقعت شيئاً مشابهاً لما سمعته على الكاسيتات. لغة المسرح المختلفة، السوريالية العالية، الثياب، طريقة تحريك الممثلين، فضلاً عن اللغة المعقدة بعض الشي لمعتاد زياد نفسه، جعلني أعتقد بأن الرجل قد جن وبأنه كما شخصياته في المسرحيات والمقاطع التي ينشرها كثيرون غير آبه لا بالجمهور ولا بالجو ولا بأي شيء.
كنتُ مخطئاً. بعدها بأكثر من عشر سنواتٍ كاملة، فهمت ما فعله الرجل ولماذا قدّم مسرحيات الأخيرة بهذا الشكل وهذه اللغة، والشاكلة. لقد وقف زياد في البدايات مع "الشعب المسكين" ثم اكتشف بعد نضجه الكبير أنَّ المشكلة أيضاً في "الناس"، فعرى سلوكاتهم في مسرحياته الأخيرة "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" و "لولا فسحة الأمل" قدم رؤية للمجمع بشكله الحالي، وكيف أن السلطة لا تقوم بما تقوم به إلا لأن الناس هم كذلك، ولأنَّ السلطة هي نتاج الناس وصورة عنهم وليس العكس، "فكما تكونوا يولى عليكم". كنتُ قد بلغت الثلاثين من العمر، ولم أكن متصالحاً بعدُ مع زياد، هاجمته في مقالاتٍ كثيرة، وسخرتُ من أسلوبه في الحياة كما الكتابة، كما العمل مراتٍ ومرات، اللافت أنه في يومٍ ما، وعبر صديقة مشتركة هي العزيزة ضحى شمس، التي أصرت أن تعرّفني بزياد بشكلٍ طبيعي ولطيف هذه المرّة حينما كنا "نعتصم" أمام جريدة الأخبار اللبنانية حيث نكتب كلانا، زياد وأنا، وبالتأكيد ضحى. يومها بعدما حدثته ضحى عني، أخبرته عن مقالاتي التي أهاجمه بها، وبعضها نشر في الأخبار، أجابني بهدوء وسخرية معتادة إنما لطيفة ومحببة هذه المرة: "إيه منيح الواحد ينسب بجريدته أحسن ما ينسب بجرايد التانيين".
شرحت له أنني لم أشتمه -أي أسبه بالعامية- نهائياً، بل علقتُ على سلوكه الفني وما شابه. ابتسم لي، كان لطيفاً للغاية، ودوداً، والأهم من هذا متواضعاً. ضحى أصرت بعدها بفترةٍ قليلة أن تدعونا نون -زوجتي- وأنا إلى حفلٍ لزياد في المركز الثقافي الروسي. المسرحُ وخشبته قريبٌ جداً من الجمهور، مما يجعلنا -كمشاهدين- قادرين على رؤية كل تفاصيل ما يحدث على الخشبة. ولأوّل مرةٍ مذ تعرفت بزياد: أسحرُ به، أفتتن به. لقد كان يقطرُ فناً، وإبداعاً، ومهارةً. لقد كان يعزف ويغني ويتحدّث بكل جوارحه، حتى إنني كتبت في مقالتي عن تلك التجربة بأن زياد "عزف بأنامله وحتى بأصابع أقدامه"، وهذا لم يكن كلاماً عبثياً، إذ إن من شاهد هذا الحفل -أو أي حفلٍ لزياد- دقة موسيقى أسواء عزفها هو أو أداها آخرون.
يومها تصالحتُ مع نفسي ومع زياد في آنٍ معاً. يومها شاهدتُ زياد الحقيقي، زياد الذي أحببته منذ البدايات، زياد الفنان، والمبدع، والماهر، والذي لا يشبه إلا زياد. لم أعد أتأثر بتعليقات الآخرين عنه وحوله، حتى المقاطع التي يستخدمونها لم تعد تضايقني كثيراً. صرتُ أستمع إليه بصورةٍ مختلفةٍ هذه المرّة، صرتُ أراه مبدعاً لا مثيل له، لا يشبه سواه، وأنه لربما آخر المبدعين العباقرة في هذي البلاد التي تقتل كل شيء وكل ابداع. يرحل زياد اليوم تاركاً فينا حزناً كبيراً، إنما أملاً أكبر بأن القادم سيكون أفضل، مهما اسودت الأيام وصعبت.