الجاحظ من أشهر الأدباء/النقّاد الذين يرِد ذكرهم عند المفاضلة بين ثنائي اللفظ والمعنى الشهير على صعيد المقارنات النقدية في الشعر العربي، سواءٌ بين الشعراء على اختلاف المقامات أو لدى الشاعر نفسه على تقلّب مزاجه الشعري بين قصيدة وأخرى من ديوانه؛ وهذه هي عبارة الجاحظ التي طوّفت في آفاق نقد الشعر العربي الكلاسيكي، نوردها من غضون بحث بعنوان "قضية اللفظ والمعني في نظرية عمود الشعر من الجاحظ إلى المرزوقي: تأصيل ومتابعة وتحليل" للباحث عبد الفتاح جحيش من جامعة جيجل بالجزائر، منشوراً في مجلة الناصّ ضمن المجلد 16 العدد 29 شهر يونيو: "يقترن ذكر أصل قضية اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم بما قاله الجاحظ في عبارته المشهورة التي علق بها على أبيات استحسنها شيخه أبو عمرو الشيباني: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي، والمدني والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير".
يذكر جحيش أن قدامى النقاد ومحدثيهم لم يسرفوا في استخدام رأي الجاحظ الشهير هذا فحسب وإنما أساؤوا فهمه أيضاً، على اعتبار أن الجاحظ يتنصر للفظ انتصاراً مطلقاً أو شبه مطلق، وتلك – في رأي الباحث – ليست الحقيقة المطلقة في فهم مراد الجاحظ من عبارته النقدية الشهيرة تلك.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: نِعْم الطبع ونِعْم الصنعة
مهما يكن، لا تخلُ كلمة أديبنا/ناقدنا الكلاسيكي العملاق من الدلالات العميقة حتى إذا أخذناها بالمعنى الحرفي؛ فشعرنا العربي الغنائي يقوم عموده بالفعل على اللفظ (بكل دلالاته) على حساب المعنى (بكل دلالاته أيضاً)؛ ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن شعرنا الغنائي لم يكن يُوْلي المعنى عناية تُذكَر، ولكنّ نظرة عابرة إلى ترجمات غنائياتنا الشعرية – الكلاسيكية أو الحديثة – تُنبئ بأنّ تلك الغنائيات اهتمّت باللفظ الذي ابتلعه تماماً النص المترجَم ولم يبق من المعنى المنقول قدْراً عميقاً من الأصالة لا يعرفها الآخر في ثقافته؛ وقد أشرت في مقام مستقل إلى تجربة شخصية حافلة بالتحدّيات على هذا الصعيد.
لكلا اللفظ والمعنى العديدُ من الدلالات المتداخلة كما سنرى الآن ونحن نعرض كيف وقف شوقي إزاء تحدّيها جميعاً؛ وأميرنا هذا - على كل حال - لم يكن بِدْعاً بين شعرائنا العرب في هذا الصعيد من حيث بروز اللفظ لديه على حساب المعنى عند المقارنة مع الثقافات الشعرية الأخرى، وذلك بحيث تذهب الترجمة بأروع ما في شاعريّة أميرنا الاستثنائي ولا يبقى من معانيه في أي نص مترجم ما يدهش القارئ الأجنبي بقدر عميق من أصالة المعنى؛ أمّا بالحديث عن تجليات المعنى المقصودة في السياق الشعري الغنائي العربي فحدّث عن روعة معاني الأمير ولا حرج.
المعنى لا يقتصر على الفكرة استغناءً بخطوطها العريضة عن التفاصيل المتضمَّنة في غضونها، بل يشمل كل تجلّيات ما سوى المتصل باللفظ من مكوّنات القصيدة الغنائية: التعمّق الدقيق في استجابات النفس البشرية، استلهام الأحداث التاريخية الكبير منها والصغير، الحِكَم السائرة كالأمثال، توليد وتفريع المعاني المتناولة من قبل، الأغراض الشعرية الجديدة التي تُنشئ تلقائياً معاني جديدة، دقة وبراعة الوصف، الخيال الشعري المفترَع، المحسّنات البلاغية المعنوية بصفة عامة، وغير ذلك كثير بطبيعة الحال؛ المعنى باختصار هو كل فكرة يتناولها الشاعر ليعبّر عنها وطريقة تعبيره عن تلك الفكرة بكل التفاصيل المحتملة بصرف البصر عن الأسلوب/اللفظ الذي يحتضن الفكرة.
ومثلما هو الحال مع المعنى، فإن اللفظ لا يقف عند حدود الكلمة المنتقاة وإنما يعني أساساً الأسلوب الذي يتضمّن الألفاظ فيما لا حصر له من احتمالات صفّها ورصّها والخروج من ثمّ بدلالات وغايات للمتعة والفائدة مستعصية بدورها على الحصر؛ اللفظ يفيد - والحال على نحو ما أشرنا - ما على هذه الشاكلة من الأبعاد والدلالات: دقة الاختيار بما يوافق المعنى المراد إبرازه، براعة المزج بين القاموسين القديم والمعاصر، الجرْس الملائم للمقام، التناسق بين الألفاظ المنتقاة بحسب ما يقتضيه السياق، حسن الديباجة (وهو على الأرجح تتويج لكل ما سبق)، الجزالة في مواضعها (ولا تعارض بين الجزالة وحسن الديباجة بالضرورة)؛ وعند إيفاء أبعاد/دلالات الألفاظ إجمالاً حقها كما ينبغي تتحقّق روعة الموسيقى الداخلية وهي تتجانس مع الموسيقى الخارجية، كل ذلك بما يتجانس بدوره مع الموضوع المعبَّر عنه والأفكار المطروحة (المعنى).
أجاد شوقي في المعنى، وقد عرضنا لذلك بتفصيل في أكثر من مقال سابق مثل "ونِعم شعر المناسبات"، "ليس مجدداً فحسب"، "شاعر فنون الشعر"؛ وأجاد شوقي في اللفظ، وقد عرضنا لذلك أيضاً بأقدار متراوحة في المقالات المشار إليها وفي غيرها مثل "ما المعجز في شعر شوقي؟"، عبقرية عابرة للبحور"، "نِعم الطبع ونعم الصنعة"؛ ومن باب الاستشهاد العابر من ديوان الأمير نورد هنا للدالة على ضروب متنوعة من التمكن من ناصية اللفظ ما يلي: قصيدتَيْ "همّت الفلك واحتواها الماء" و"بسيفك يعلو الحق والحق أغلب" مثالاً على جزالة العبارة، وقصيدتَيْ "شَيّعـتُ أَحْـلامـي بقلـبٍ بـاكِ" و"سَلوا قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا" مثالاً على حُسن الديباجة، وقصيدتَي "صداح يا ملك الكنار" و"عُصفورَتانِ في الحِجاز" مثالاً على رشاقة الأسلوب. ولعلّ متذوّقاً نقديّاً آخر يستقلّ ما أوردناه من أمثلة ليجيء بغيره مما هو أشدّ إبرازاً لما أشرنا إليه من الدلالات، أو يضع مثالاً أوردناه في معرض دلالة بعينها على أنه أوقع في غيرها؛ ولا غضاضة من ذلك، فالأجدر بالانتباه على هذا الصعيد أن الأمير لن يخيّب ظنون متذوّقي أسلوبه بكثرة الأمثلة الدالة في أية ناحية مشتهاة على روعة الأسلوب حتى إذا كان من الوارد أن يختلف أولئك المتذوّقون ويتجادلوا في انتقاء المثال الأنسب للمقام المراد من صعيد ألفاظ/أساليب/موسيقى شوقي، ما ظهر منها وما بطن.
"إن مصاب الموسيقى في شوقي لا يقلّ عن مصاب الشعر والأدب، وما فجيعة الأسرة الموسيقية في شوقي بأقلّ من فجيعة أسرته فيه"، هذا مما جاء في برقية عزاء أعضاء نقابة ومعهد الموسيقى الشرقي كما أوردها أحمد عبد الوهاب أبو العز في كتابه "اثني عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء".
تلك الكلمات الصادقة من أرباب الموسيقى المحترفين تفيد إحدى دلالتين، أو الاثنتين معاً: أن قصائد شوقي المغنّاة قد ألهمت الموسيقيين ألحاناً خالدة، أو أن شعر شوقي كان في ذاته موسيقى خالدة؛ ما أروع الدلالة الأخيرة.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])