المباراة بين مدرستَي الطبع والصنعة قديمة قِدَم الشعر الجاهلي، فقد تدارسها النقّاد بعد الجاهلية وصدر الإسلام بأثر رجعي تطبيقاً على الجاهليين المؤسسين ثم على مَن تلاهم من الشعراء، واستمرّت المقارنة/المفاضلة إلى عصرنا الحديث مؤثِّرة بعمق على تلقّي وتقييم شعرنا الغنائي العربي؛ غالباً بالارتداد إلى استلهام ما قاله النقاد القدامى من أمثال ابن رشيق والقاضي الجرجاني والمرزوقي وابن قتيبة، وذلك حتى لدى نقاد العصر الحديث المتّسمين بأصالة الرؤية والعمق النقدي من أمثال شوقي ضيف وإحسان عباس وجابر عصفور؛ وليس في ذلك غرابة على كل حال، فشعرنا الغنائي هو نهر طويل متدفّق منذ القدم، لم ينقطع أثره على مرّ العصور وإنْ تباينت حدّة تدفّقه وسطوته على الناس؛ حتى إذا داخَلَ غنائيّتَنا الشعرية تأثيرُ المدارس الأدبية الغربية – على نحو أشدّ وضوحاً حوالي النصف الثاني من القرن العشرين – خرجنا بأقدار متفاوتة من تلك الغنائيّة إلى أنواع أخرى مختلفة شكلاً ومضموناً، فتشكّلت مجارٍ جديدة لمياه الشعر العربي لا تُعَدّ فروعاً من نهره الغنائي الأساس قدرَ ما بدت كما لو كانت أنهاراً أخرى موازية وأحياناً متقاطعة مع النهر العربي التليد.
إذا اختصرنا المقصود بالطبع في عفوية الارتجال واختصرنا المقصود بالصنعة في مراجعة ما تجود به القريحة بالتدقيق/التنميق اللفظي والتعميق المعنوي قبل العرض على الجمهور، أين يقف أميرنا العملاق من المدرستين؟
ليس من قبيل المبالغة أن نقول إنه جمع الحُسنيين ببراعة: الطبع والصنعة؛ فبقدر ما كانت قريحته فيّاضة كان ما تجود به تلك القريحة يبدو كما لو أنه قد أُلْهِمَ مكتمِلَ الزخرفة شكلاً والبلاغة مضموناً؛ وعلى أسوأ فروض ذلك الافتراض المثالي في تلقّي الإلهام، فإن الأمير كان يعود إلى جَنَى قريحته الفيّاضة بأقلّ أشكال التنقيح اللفظي والتدقيق المعنوي بُعيد نزول ذلك الإبداع من سماوات الوحي الشعري وإثباته على الأوراق مع أقرب فرصة متاحة بقلمه أو أقلام من يساعدونه على التدوين كما كان دأب شاعرنا غالباً في مختلف مراحل حياته.
في كتابه "شوقي"، يقول أنطون الجميِّل: "أمّا جودُ قريحته فيتجلّى في كثرة ما نظم، وفي طرْقه الموضوعَ الواحد في أكثر من قصيدة، وهو في كل مرة يجيء بالطريف الجديد، كما يتجلّى هذا الخصب في مدى العشرات من قصائده التي تؤلِّف روايات كاملة، فما كان ينتهي من قصيدة حتى يعالج غيرها، وكأنّه قد نسي الأولى، فكان خاطره كالروض في الربيع يجود بالزهر متتابعاً، ويُنضج الثمرَ متعاقباً، أو كالبلبل يتوالى تغريده... فانقاد له النظم وأسلس قيادَه، وجرى الشعر على لسانه مجرى الكلام فتكاد لا تقرأ من نثره بضعة أسطر حتى تجد بيتاً أو شطراً، فحقَّ له أن يقول: إذا قلت شعراً فالقوافي حواضر، (وذلك) كما قال قديماً الشاعر اللاتيني أوفيد (Ovid) : كلُّ قولٍ حاولتُه كان شعراً. ومن مظاهر هذا الخصب في القريحة واستنباط المعاني أنه طرق أبعد الموضوعات عن الشعر فاستخرج منها شعراً طيّباً، كالنحلة تشتار عسلها من جميع أنواع الزهر".
وفي السياق نفسه تقريباً، ولكن ربما بصورة أوضح هذه المرة بما يميل إلى تأكيد غلبة الطبع، وهي مسألة لا تنافي على كل حال عظمة السيطرة على الصنعة، يقول أحمد عبد الوهاب أبو العز في كتابه "اثني عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء" في معرض حديثه عن طريقة الأمير في نظم الشعر: "ومن بضع سنين زار قبر صلاح الدين بدمشق وعاد إلى دمر فأخذ ينظم وكان معه الأستاذ محمد عبد الوهاب والأستاذ نجيب الريس، فلم يمض أكثر من ساعة حتى انتهت القصيدة التي مطلعها: قم ناج جلق، فتكلموا معه في سرعته في نظم هذه القصيدة مع مكانتها هذه من الجودة فقال هي روح صلاح الدين".
ولعل الدلالة الأعمق على ترافق وتآزر الطبع والصنعة لدى شوقي تكمن في الاقتطاف التالي الذي أشرنا إليه قريباً في مقال "ربّة الشعر الشوقية" عن الكتاب نفسه: "وقال لي صديق له (يكمل المؤلف) لقد لازمته في ليلة في بوفيه لابرومينات على كوبري قصر النيل وكان ذلك قبل الحرب، فشرع يعمل في قصيدة النيل التي مطلعها: من أي عهد في القرى تتدفق ** وبأي كف في المدان تغدق، وكان كل نصف ساعة يركب مركبة خيل ويسير في الجزيرة بضع دقائق ثم يعود إلى المنضدة التي كان يجلس إليها فيكتب عشرة أو اثني عشر بيتاً، وهكذا حتى انتهت القصيدة في ليلة إلا بيتاً استعصى ولم يتمكن منه إلا بعد يومين".
هكذا يتجلّى القدْر الذي يحتاجه الأمير من الصنعة بالمعنى الحرفي للكلمة، وذلك بتجاوز صنعته المعتادة التي تكاد تعمل في تزامن دقيق مع طبعه خلال عملية الولادة الإبداعية لنصوصه الشعرية؛ ما يحتاجه الأمير هو العمل على بيت واحد فقط ضمن قصيدة يتجاوز عدد أبياتها مائة وخمسين بيتاً؛ ولعل مدة العمل في المثال المذكور (يومين) هي حالة استثنائية؛ فهو في الغالب ممّا ورد عن سيرته في هذا السياق يحتاج إلى أقلّ من ذلك بكثير، هذا إذا لم تخرج القصيدة أصلاً من قريحته إلى الأوراق مكتملة اكتفاءً بالتوازي/التزامن الدقيق بين ما هو مطبوع وما هو مصنوع.
وفي الاقتطاف التالي عن كتاب "شوقي شاعر العصر الحديث"، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة (مكتبة الأسرة) سنة 2010، لا أقول إننا نلمس غياب الصنعة وإنما تواريها في غضون القريحة الصارخة، وذلك بما وصفناه على أنه حضور موازٍ/متزامن – وإنْ يكن مستتراً في أغلب الأحوال - مع الطبع المتفجّر في طغيان جارف؛ يقول شوقي ضيف: "أو قل كأنما كان شوقي مشغولاً عن رفاقه وما هم فيه من لهو ولعب بحركات مضطربة مختلطة متشابكة كانت تأتيها ربّة الشعر من حوله بأجنحتها حين تصفق، فتملأ أذنه برفيف وضجيج، ولا تترك له فسحة كي يلم شتات نفسه ويندمج في صحبه، إذ كانت تأخذ عليه كل طريق. واستجاب شوقي إليها، فانعزل عن أخدانه، ومكث ينتظر ما توحي به إليه وما تودعه أذنه وعينيه من همسات وحركات ورؤىً حالمة. وكان النبع في أثناء ذلك يفيض والنور يسيل".
هذا، ويكشف استكمال ذلك الاقتطاف عن سيطرة شاعرنا على أدوات الصنعة التي لم يكن يحتاج إليها لتظهر آثارُها بوضوح على نظمه هو، كونها تعمل بصورة تلقائية/متوازية/متزامنة مع طبعه، ولكنه كان مستعداً منذ نعومة أظافره الشعرية لإعمالها عند الطلب في إصلاح قصائد غيره: "فإذا الشيخ محمد البسيوني البيباني أستاذه في اللغة العربية، وكان شاعراً فصيحاً، تبهره شاعريته، ويجلس منه مجلس التلميذ من أستاذه. وكان هذا الشيخ يدبّج القصائد الطوال في مدح الخديوي توفيق كلما حلَّ موسم أو أهلّ عيد، فكان قبل أن يرسلها إلى القصر لتُنشَر في صحيفة الوقائع المصرية وغيرها من الصحف العربية يعرضها على شوقي، فما يزال يُصْلح له فيها، فيمحو هذه الكلمة أو تلك، ويعدِّل هذا الشطر أو ذاك، ويُسْقط بعض الأبيات، وأستاذه مغتبط به فرِحٌ لصنيعه".
خرجتْ الشوقياتُ إذن إلى النور، ومعها أعمال الأمير الشعرية كافةً، وفيها من تجلّيات الطبع الطاغي وبركات الصنعة الخفيّة في آن معاً ما يباري ويجاوز أشعار الفحول من أرباب الطبقة الأولى من شعراء العربية المنسوبين إلى أيٍّ من طرفَي النقيض فيما يخصّ آليات ولادة الإبداع الشعري العظيم: الطبع والصنعة.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])
نرشح لك : عمرو منير دهب يكتب: شاعر فنون الشعر