الله يشهد ما كفرت صنيعة ** في ذا المقام ولا جحدت جميلا
وهو العليم بأن قلبي موجع ** وجعاً كداء الثاكلات دخيلا
مما أصاب الخلق في أبنائهم ** ودهى الهلال ممالكاً وقبيلا
أأخون إسماعيل في أبنائه ** ولقد ولدت بباب إسماعيلا
ولبست نعمته ونعمة بيته ** فلبست جزلاً وارتديت جميلا
ووجدت آبائي على صدق الهوى ** وكفى بآباء الرجال دليلا
رؤيا عليّ يا حسين تأولت ** ما أصدق الأحلام والتأويلا
وإذا بناة المجد راموا خطة ** جعلوا الزمان مُحَقّقا ومُنِيلا
القوم حين دها القضاء عقولهم ** كسروا بأيديهم لمصر غلولا
هدموا بِوادي النيل ركن سيادة ** لهمُ كركن العنكبوت ضئيلا
هذه الأبيات – وأشهرها البيت الرابع في المقتطف - من قصيدة معروفة لم تضمّها الشوقيّات المتداولة، وقيل إنها حُذفت فيما حُذف في طبعات الشوقيات الصادرة في النصف الثاني من الخمسينيات الماضية بدوافع سياسية. المقتطف أعلاه وما يليه عن مجلة المنار من موقع على الإنترنت يضم نسخاً من المجلة، وقد أورد محمد رشيد رضا القصيدة كاملة مع المقدمة التالية: "نظم أشهر شعراء مصر القصائد في التهاني السلطانية، وفي مقدمتهم إسماعيل باشا صبري وأحمد شوقي بك ومحمد حافظ بك إبراهيم، وامتازت قصيدة شوقي بأنها لم تكن مدحاً وثناء مجرداً كغيرها؛ بل تمثيلاً لشعوره ووجدانه الخاص من حيث هو ربيب بيت الخديوي إسماعيل باشا، وغرس نعمته، ووجدانه العام من حيث هو مسلم مصري، ويشاركه في هذا جمهور المصريين؛ فإذا أثبتناها بنصها أثراً تاريخيّاً لا نخرج عن سنة المنار في عدم نشر المدائح الشخصية".
يبدو الشيخ رضا كما لو كان يلتمس في المقدمة مدخلاً أخلاقياً لنشر قصيدة رائعة من الوجهة الفنية اختلف الناس بشأنها لأسباب وطنية مبدئية تتجاوز مجرّد الضجر والترفّع عن التهليل للمدائح الشخصية، وتحفُّظ الشيخ رضا بطبيعة الحال مختلف بوضوح عن تحفّظ أولئك الذين جاؤوا بعد وفاته بأكثر من عقدين ولم يروا تبرئة الذمّة الأخلاقية بمقدمة قصيرة كافية فأقدموا على حذف القصيدة كاملة في جملة ما حذفوا من نسخ الديوان الجديدة.
تبدأ القصيدة الجميلة الشائكة فتنطلق على هذا النحو:
الملك فيكم آل إسماعيلا ** لا زال بَيْتُكُمُ يُظِل النيلا
لطف القضاء فلم يمل لوليكم ** ركن ولم يشف الحسود غليلا
هذى أصولكمُ وتلك فروعكم ** جاء الصميم من الصميم بديلا
المُلك بين قصوركم في داره ** من ذا يريد عن الديار رحيلا
عابدين شرّف يا ابن رافع ركنه ** عزّاً على النجم الرفيع وطولا
ما دام مغناكم فليس بسائل ** أحوى فروعاً أم أقلّ أصولا
أنتم بنو المجد المؤثل والندى ** لكمُ السيادة صبية وكهولا
النيل إن أحصى لكم حسناتكم ** ملأ الزمان محاسناً والجيلا
أحيا أبوكم شاطئيه وابتنى ** مجداً لمصر على الزمان أثيلا
نشر الحضارة فوق مصر وسوريا ** وامتد ظلّاً للحجاز ظليلا
وأعاد للعرب الكرام بيانهم ** وحمى إلى البيت الحرام سبيلا
حفظ الإله على الكنانة عرشها ** وأدام منكم للهلال كفيلا
بنيان عمرو أَمَّنَتْهُ عناية ** من أن يزعزع ركنه ويميلا
وتدارك الباري لواء محمد ** فرعى له غرراً وصان حجولا
في برهة يذر الأسرة نحسها ** مثل النجوم طوالعاً وأفولا
الله أدركه بكم وبأمّة ** كالمسلمين الأولين عقولا
حلفاؤنا الأحرارُ إلا أنهم ** أرقى الشعوب عواطفاً وميولا
أعلى من الرومان ذكراً في الورى ** وأعز سلطاناً وأمنع غيلا
لما خلا وجه البلاد لسيفهم ** ساروا سماحاً في البلاد عدولا
وأتوا بكابرها وشيخ ملوكها * ملكاً عليها صالحاً مأمولا
تاجان زانهما المشيب بثالث ** وَجَدَ الهدى والحقُّ فيه مقيلا
سبحان من لا عز إلا عزه ** يبقى ولم يك ملكه ليزولا
لا تستطيع النفس في ملكوته ** إلا رضا بقضائه وقبولا
الخير فيما اختاره لعباده ** لا يظلم الله العباد فتيلا
نظم شوقي القصيدة مهنّئاً السلطان حسين كامل الذي تولى العرش تحت حماية ورعاية الإنجليز، وقد احتشدت الأجواء التي انطلقت منها القصيدة بمآزق سياسية واجتماعية معقّدة، لكن الأدهى بالنسبة لشاعرنا لم يكن موقف الشعب من الإنجليز أو السلطان الجديد قدر ما تمثّل في أن الأخير هو عم الخديوي عباس حلمي الثاني المخلوع و"ولي نعمة" شوقي بالمعني الحرفي الدارج.
شوقي لا تنقصه الفطنة ولا الحكمة بحال، فإذا كان مناط الخلاص إجادة اللعب على حبال متشابكة لا مفرّ من المشي عليها والقفز بينها فإن شاعرنا قد فعل وُسعه ولم يُجِدْ فنيّا فسحب وإنّما أجاد تقديم المبرّرات المنطقية – وربما الأخلاقية - أيضاً؛ ولكن في مفترقات الطرق لا تجدي البراعة الفنية والسياسية كثيراً، فالمسألة اختيار لن يُرضي كل الأطراف بالضرورة وعلى صاحب الاختيار أن يتحمّل تبعاته كاملة.
لم يُردْ شوقي أن يُغضب أحداً، هنّأ السلطان الجديد وتعاطف مع "ولي نعمته" المخلوع، بل رفع من شأن الإنجليز فوصفهم بالحلفاء الأحرار وجعلهم أرقى الشعوب عاطفةً وأعلى ذكراً من الرومان وأقرّ لهم بالسماحة والعدل؛ لكنّه كدأبه في تلك الحقبة كان يغرّد بعيداً عن هواجس وتطلّعات الشعب، ولم يكن ذلك لأنه ضدّ الشعب ابتداءً وإنما لكونه قريباً من السلطة الحاكمة.
وعلى كل حال، فإن هواجس الشعوب وتطلّعاتها ليست مسألة مطلقة يستحق أن يوصف من يستطيع إليها سبيلاً بالخير المطلق، فبعيداً عن المزايدات الأخلاقية المغرية على صعيد صناعة وقبول البطولات الشعبية، يتلقّى الناس بالرضا والحب من ينشأ بينهم ويعيش آلامهم ويشاركهم أفراحهم فيعلون مآثره ويتغاضون عن زلّاته، في حين يفعلون النقيض مع من يعيش بعيداً عنهم، فإذا وصل البعدُ إلى الطرفَ المقابل لدى السلطة الحاكمة بلغ الحطّ من مآثر "البعيد" والاجتهاد في ترصّد زلّاته مبلغاً عظيماً؛ وتلك هي مفارقة شوقي وحافظ في الوجدان الشعبي المصري بصرف البصر عن الفارق الفني الكبير بينهما لصالح شوقي وبرغم تزلّف شاعر النيل إلى الخديوي وإلى السلطان بالمدائح وتذبذبه في مواقفه السياسية جميعها، لكنه لا ريب كان الأقرب بحكم نشأته لأن ترى فيه الناس ضميرها الذي يطيب لها أن تغفر زلّاته أو لا تراها أساساً.
ولو أن غفران الشعوب يتحقّق بالبراعة الفنية لتأتّى بهذه القصيدة البديعة على الطريقة الشوقية المائزة. في المقتطف التالي من آخر القصيدة يغدق الشاعر الثناء على الحاكم الجديد ويرفع عنه الحرج في عدم استطاعته إقالة عثرة ابن أخيه، ثم يتوجّه إلى الشعب ناصحاً بضرورة التسليم بالقضاء الذي لا يُردّ، بل إنه يحمّل كل حزب وفريق من أهل مصر المسؤولية، وهذا كلام عام فيه من التذاكي أظهر مما فيه من الصدق، إذ يشتمل على تفريق للدم بين قبائل المصريين لن ينطلي عليهم بحال حتى إذا تضمّن الحقيقة أو بعضها، فالمذنب لا يسرّه أن يتلقّى تقريعه من حليف/ربيب خصمه، وشوقي حينها كان ربيب السلطة (خصم الشعب) بامتياز، دون أن يعني ذلك أنه كان يضمر البغضاء أو الضيق تجاه الشعب.
ليست معالي الأمر شيئاً غائباً ** عنكم وليس مكانكم مجهولا
كم سستموه في الشبيبة مضلعاً ** وحملتموه في المشيب ثقيلا
وحميتمُ زرع البلاد وضرعها ** وهززتمُ للمكرمات بخيلا
يا أكرم الأعمام حسبك أن ترى ** للعَبرتين بوجنتيك مسيلا
من عثرة ابن أخيك تبكي رحمة ** ومن الخشوع لمن حباك جزيلا
ولو استطعت إقالة لعثاره ** من صدمة الأقدار كنت مقيلا
يا أهل مصر كِلُوا الأمور لربكم ** فالله خير موئلاً ووكيلا
جرت الأمور مع القضاء لغاية ** وأقرّها من يملك التحويلا
أَخَذَتْ عناناً منه غير عنانها ** سبحانه متصرفا ومديلا
هل كان ذاك العهد إلا موقفاً ** للسلطتين وللبلاد وبيلا
يعتز كل ذليل أقوام به ** وعزيزكم يُلْقِي القياد ذليلا
دفعت بنافيه الحوادث وانقضت ** إلا نتائج بعدها وذيولا
وانفضّ ملعبها وشَاهِدُه على ** أن الرواية لم تتم فصولا
فأدمتمُ الشحناء فيما بينكم ** ولبثتمُ في المضحكات طويلا
كل يؤيد حزبه وفريقه ** ويرى وجود الآخرين فضولا
حتى انطوت تلك السنون كملعب ** وفرغتمُ من أهلها تمثيلا
وإذا أراد الله أمراً لم تجد ** لقضائه ردًّا ولا تبديلا
كان شوقي يعلم جيّداً تحدّيات مفترقات الطرق السياسية، وكانت خياراته واضحة عموماً، فهو يميل إلى السلطة الراهنة من غير أن ينكر أيادي السلطة السابقة ولكن دون أن يأخذ بتلك الأيادي مقيلاً عثرتها بأبعد من السكوت الذي هو أضعف الإيمان. ولكن هل كان في وسع شاعرنا أفضل من ذلك مع مفترقات طرقه السياسية؟ نعم، فقد كان بإمكانه ألّا يميل إلى السلطة الجديدة، وليس شرطاً أن يذمّها؛ ولكن الرجل كان يؤثر السلامة تماماً، بل كان الأمر لديه يتعدّى إيثار سلامة يمكن أن يضمنها بالرحيل في ركب الحاكم الراحل، فقد علم شاعرنا جيّداً ما يلزم للبقاء تحت الأضواء: تأييد السلطة الجديدة.
من المهم الانتباه إلى أن امتحانات مفترق الطرق ليست حكراً على أولئك المقرّبين من السلطات، فالواقفون على الطرف الآخر من الشعراء بعيداً عن السلطة يخوضون الامتحان تحت العنوان ذاته، ولكن ربما بمضمون أيسر كثيراً، أو على الأقل بعيداً إلى حدّ ما عن أعين المترصّدين لأخطاء العظماء.
امتحانات مفترق الطرق مع المبادئ نخوضها جميعاً ولا نعدم المبرّرات مهما تكن اختياراتنا من بين الطرق المفترقة؛ أمّا العظماء من أمثال أمير الشعراء هذا فمن الأفضل أن نقيّم إبداعهم ونتذوّقه بعيداً عن تداعيات ذلك الامتحان. مع أحمد شوقي تحديداً لم تكن امتحانات المبادئ مقصورة على مفترقات الطرق من العيار السياسي الثقيل، بل كان – كما سنرى لاحقاً - في تفاصيل طباعه النفسية وسلوكياته الدقيقة ما يشي بأنه في كثير من الأحيان لم يكن يفكّر مرّتين قبل أن يختار الاتجاه المعاكس للمبادئ المتواضع عليها بضمير مستريح لجمال الفن وجمال الحياة أو لمجرّد إراحة باله باختيار ذرائعي لا يضرّ به أحداً في الغالب.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])