عمرو منير دهب يكتب: عبقرية عابرة للبحور

حَفَّ كَأسَها الحَبَبُ ** فَهيَ فِضَّةٌ ذَهَبُ

أَو دَوائِرٌ دُرَرٌ ** مائِجٌ بِها لَبَبُ

أَو فَمُ الحَبيبِ جَلا ** عَن جُمانِهِ الشَنَبُ

أَو يَدٌ وَباطِنُها ** عاطِلٌ وَمُختَضِبُ

أَو شَقيقُ وَجنَتِهِ ** حينَ لي بِهِ لَعِبُ

راحَةُ النُفوسِ وَهَل ** عِندَ راحَةٍ تَعَبُ

يا نَديمُ خِفَّ بِها ** لا كَبا بِكَ الطَرَبُ

لا تَقُل عَواقِبُها ** فَالعَواقِبُ الأَدَبُ

تَنجَلي وَلي خُلُقٌ ** يَنجَلي وَيَنسَكِبُ

يَرقُبُ الرِفاقُ لَهُ ** كُلَّما سَرى شَرِبوا

شاعِرُ العَزيزِ وَما ** بِالقَليلِ ذا اللَقَبُ

ترِد القصيدة التي أولها الأبيات أعلاه في باب الوصف من الشوقيات تحت إشارة إلى مناسبتها تقول: "في وصف ليلة راقصة أقيمت في قصر عابدين"، ومضمون الإشارة كان كافياً لإبعاد القصيدة عن المفضّلات المحظيّات اللائي كان المراهق شديد الالتزام دينيّاً وأخلاقياً حينها يلجأ إلى قراءتهن للتسرية والطرب في فترات الاستراحة العابرة التي تتخلّل ساعات الدراسة المرهقة. لكنّ فتوى أدبية ترتدي حلّة شرعية مجوّزة للشاعر ما لا يجوز لغيره – ليس من الضرورات الفنية فحسب – شفعت للقصيدة بألّا تُقصى تماماً عن دائرة قراءاتي الشوقيّة لتطلّ على استحياء من حين لآخر، أو – للدقة – كنت أنا من يختلس النظر إليها بين الفينة والأخرى على استحياء للتلذّذ ببعض جمالها الأدبي المصوغ بمواصفات الأمير الحصرية. ولمزيد من الدقة، فإن لذّتها الجمالية كانت مراوغة، ليس بسبب موضوعها الصريح في مجونه بل لدواعي فنيّة محضة بالنسبة لفتى كان نسبيّاً في بواكير انفتاحه الأدبي على مختلف الأذواق، وفي مقامنا هذا أتحدّث عن مختلف بحور الشعر تحديداً.

المقتضب - للدقة مجزوء المقتضب - ليس بحراً شائعاً، وهو ليس مما يروق الشعراء إلّا في مقامات خاصة كالغزل أو وصف مجلس ماجن كذلك الذي ألهم أميرنا هذه القصيدة البديعة؛ وتبعاً لذلك كان غريباً أن يجذب البحرُ نفسه على صعيد التلذّذ بالإنشاد شاعراً ومتذوّقاً أدبيّاً ناشئاً - إلى حدّ أن يجعله يتشبّث بذيول فتوى هي في الواقع مزيج أدبي/ديني مراوغ - لولا عبقرية شوقي التي تنساب عبر بحور الشعر كافة بضمان الجودة والمتعة فوق حساب السنين.

أقلُّ من (مجزوء) المقتضب شيوعاً وجاذبيةً بحرٌ يراه البعض على أنه مشتق من مجزوء المتدارك استوعب في الشوقيّات ببراعة الأمير المعتادة قصيدةً تأتي مباشرة بعد قصيدتنا السابقة، وهي أيضاً في "وصف مرقص أقيم بسراي عابدين":

مالَ وَاِحتَجَب ** وَاِدَّعى الغَضَب

لَيتَ هاجِري ** يَشرَحُ السَبَب

عَتبُهُ رِضىً ** لَيتَهُ عَتَب

عَلَّ بَينَنا ** واشِياً كَذَب

أَو مُفَنِّداً ** يَخلُقُ الرِيَب

مَن لِمُدنِفٍ ** دَمعُهُ سُحُب

باتَ مُتعَباً ** هَمُّهُ اللَعِب

يَستَوي خَلٍ ** عِندَهُ وَصَب

ذُقتُ صَدَّهُ ** غَيرَ مُحتَسِب

ضِقتُ فيهِ بِالر ** رُسلِ وَالكُتُب

كُلَّما مَشى ** أَخجَلَ القُضُب

بَينَ عَينِهِ ** وَالمَها نَسَب

ماءُ خَدِّهِ ** شَفَّ عَن لَهَب

ساقِيَ الطِلا ** شُربُها وَجَب

هاتِها مَشَت ** فَوقَها الحِقَب

بابِلِيَّةً ** تَنفُثُ الحَبَب

هذا كما أسلفنا بحر شديد الندرة، ليس ممّا ورد في بحور الخليل، وهو أشدّ تحدّياً من (مجزوء) المقتضب من حيث النظم انتباهاً إلى المعاني والصور البلاغية وسلاسة الموسيقى الداخلية وليس الاقتصار على ضبط هيكل التفاعيل فحسب؛ لكن الأمير يصعد بالتحدّي إلى ذراه فلا يدع ضرورات الموسيقى الخارجية بالغة الاقتضاب تلهيه عن الانتباه إلى المعاني والصورة البلاغية وعذوبة الألفاظ وسلاسة التدفق فقط وإنما يبلغ في كل ذلك الانتباه غايته الشوقيّة المعتادة، إذا جاز وصف الإبداع الفريد بالاعتياد في أي سياق.

أمّا عذوبة الألفاظ وسلاسة الجُمل وانسياب الموسيقى فلا سبيل إلى اجتلائها إلّا بالقراءة والحكم رجوعاً إلى الذائقة الشخصية؛ وإذا كان شوقي محظوظاً بصورة مخصوصة في أمر يتعلّق باختلاف الحكم عليه من الناحية الفنية فهو أن خصومه لا يجادلون كثيراً حول براعته في إحكام السيطرة على موسيقاه الداخلية وجُمَله المتدفقة في سلاسة وعذوبة؛ فللقارئ إذن أن يقرأ من الشوقيات ما يشاء - بصورة عشوائية إنْ أراد - للوقوف على دعوى تلك البراعة وله الحكم.

وأمّا المعاني والصور البلاغية فلنا أن نقف على براعته في إيرادها في سياق تحدّي المشتق من مجزوء المتدارك هذا في قوله مثلاً "كُلَّما مَشى * أَخجَلَ القُضب"، ففي البيت تكثيف بارع جمع فيه بين تشبيه ضمني للقوام بقُضُب (البان) وبين استعارة مكنية أظهرت كيف أن القُضب اللينة تخجل من تفوّق لِين قدّ الهاجر المحبوب. وفي قوله "بَينَ عَينِهِ * وَالمَها نَسَب" تشبيه ضمني أشدّ مراوغة من حيث تأصيل الأركان البلاغية، يجمع بين سهولة الوقوع على المراد من التشبيه الشائع وبين تعدّد الدلالات الكامنة في كلمة "نسب".

برع الأمير إذن في مختلف البحور والقوافي؛ لم يعجزه رويّ لندرة الكلمات التي تنتهي به ولم يستبدّ به آخر لسهولة النظم فيه. وإذا كنّا قد عرضنا لمثالين عابرين من بحرين غير شائعين نسبيّاً قد يغريان بالسهولة لكنهما امتحان مخصوص التحدّيات للشاعرية عرف شوقي كيف يخرج منه بتفوّقه المعهود غير مكتفٍ بالسيطرة الموسيقية على القصيدة وإنّما مضمّناً إياها سمات شعره المائزة جميعاً، فإن شاعرنا قد فعل الشيء نفسه في خضم بحور الشعر التي نظم عبرها جميعاً، وبحسب دراسة قيّمة لحمزة قلمين من جامعة محمد بوضياف في الجزائر بعنوان "البناء العروضي في ديوان الشوقيات" فإن بحور شوقي قد شملت الطويل والبسيط والوافر والكامل والهزج والرجز والرمل والسريع والخفيف والمقتضب والمجتث والمتقارب والمتدارك، ولم ينظم شوقي في بحور المنسرح والمديد والمضارع ومجزوء المتقارب ومجزوء المتدارك (إلا ذلك المشتق عنه – بحسب ما يراه البعض - الذي أشرنا إليه ومثّلنا له). أما رويّه، بحسب دراسة قلمين أيضاً، فقد "شمل أغلب حروف الهجاء، أي تسعة عشر حرفاً".

في مقدمة أرجوزته "دول العرب وعظماء الإسلام" يقول شاعرنا:

واخترت بحراً واسعا من الرجز ** قد زعموه مركبا لمن عجز

يرون رأيـاً وأرى خلافـه ** الكأس لا تُقوّم السلافـه

وقـيمة اللؤلؤ في النحور ** بـنفسه وليـس بالبحـور

شعر لزمت فيـه ما لا يلزم ** وتركه أليق بي وأحزم

دعا التحدّي خاطري فلبّى ** يحذو مثال السلف الألبّا

وما أيست من كريم يغضي ** ولا أمنت حاسداً ذا بغض

وربما صغت من الأمثال ** ما جاوز الجرأة من أمثالي

الرجز من البحور المغضوب عليها بحيث يخرجه البعض من زمرة الشعر، إمّا إلى النثر مباشرة وإمّا إلى منزلة بين الشعر والنثر، ولعل أشهر مبغضيه هو أبو العلاء المعري؛ وإذا كان بعض أشكال الرجز يستوعب عذوبة الشعر وخصوصياته كافة (كمجزوئه الذي جاءت عبره قصيدة شوقي الشهيرة عصفورتان في الحجاز حلّتا على فنن) فإن الأراجيز مزدوجة القافية تبدو بالفعل بعيدة عن روح الشعر بحيث إن لم تكن نثراً فهي في موقع بين النثر والشعر شكلاً وروحاً، وليس في هذا حكم لها أو عليها، فلا الشعر أسمى من النثر ولا النثر أفضل من الشعر بصفة مطلقة، إذ لكل خصائصه المائزة، فالأوزان والقوافي تأسر التعبير الشعري ليطلّ عبر ذلك الأسر جمالٌ فريد وينفجر خيالٌ شريد، في حين ينطلق النثر بلا قيود شكلية ليغوص في ما يشاء من الأفكار ويحرّر المعاني دون الخضوع لشروط هيكلية؛ فإذا دخل السجع على النثر قيّده دون أن يمنحه عذوبة الشعر التي تنطلق ابتداءً بفعل الأوزان الآسرة المكتمل جمالُها بالتزام القافية.

يبدو شوقي مدركاً كلَّ ذلك، ومدركاً – في سياقنا هذا تحديداً – تحدّي الأرجوزة مزدوجة القافية التي يبدو أنها استفزّته بمنزلتها الـ"بين بين" تلك، وهو – كما سنرى في مقالات لاحقة – قد خاض غمار كل الأجناس الأدبية تقريباً، خاضها بدافع التحدّي اللغوي والأدبي على الأرجح أكثر مما فعل بدافع الرغبة العارمة والإحساس بالموهبة الخالصة في كل جنس اقتحمه.

وإذا كنّا سننظر لاحقاً في مقامات مستقلة بتفصيل كيف أبلى شوقي في أجناس الأدب الأخرى، فإنه مع الأراجيز – بكافة أشكالها العروضية - قد أجاد وسما كعادته؛ وإذا كنت أقرّ بأنني لا أرى في أرجوزة "دول العرب وعظماء الإسلام" سموّ الشعرية على نحو ما في قصائد الأمير الأخرى، فمردّ ذلك للطبيعة الفنية للأرجوزة مزدوجة القافية لا لقصور في شاعرية الأمير. وفي هذا السياق نرى أن أبا العلاء المعري – على سبيل المثال لأشهر مبغضي الأراجيز – قد أقرّ باحتقاره للرجز، لكن السؤال الجدير بالطرح هو: كيف كان سيغدو الحال مع المعري لو قرّر خوض تحدّي إنشاء أرجوزة مزدوجة القافية؟ الأرجح أنه لم يكن ليخرج بها إلى آفاق شعرية أسما مما فعل الأمير.

مقارنةً بين طاهٍ ماهر يشترط أغلى المكوّنات وأثمن أدوات الطهي لينجز عمله وآخر يعمل بأية مكوّنات وأدوات متاحة في مطبخه ليخرج كل مرة بأروع ما يمكن إعداده من أشكال الأصناف وألوانها في إطار ما يقدَّم له محدوداً على سبيل التحدّي، فإن شوقي كان الطاهي الأخير، بل كان لا يتورّع عن أن يضاعف لنفسه شروط التحدّي لصناعة موائد شعرية شهية في مختلف الظروف وعبر أي قالب ولو كان أرجوزة مزدوجة القافية.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])