أحمد السعيد يكتب: درس "الرباط".. حين تتعثر الثقافة عند الحدود

نقلًا عن جريدة حرف:

في زمن باتت فيه الثقافة أداة استراتيجية للتموقع الدولي وبناء الصورة الذهنية للدول، يبدو أن صناعة النشر في مصر تواجه اختبارًا قاسيًا يهدد صدارتها التاريخية. أزمة تأخر شحنة كتب الناشرين المصريين المشاركة في معرض الرباط الدولي للكتاب (أبريل 2025) لم تكن مجرد خلل لوجستي، بل بحظة كاشفة تعكس اهتزاز منظومة التمثيل الثقافي، وتطرح علامات استفهام كبيرة حول أولويتنا المؤسسية، وغياب الحد الأدنى من التنسيق والمسؤولية الوطنية.

1) ما الذي حدث؟ ومن المتسبب؟

شارك في معرض الرباط الدولي هذا العام أكثر من 35 ناشرًا مصريًا، يمثلون جزءًا معتبرًا من الحضور العربي في المعرض، بتنظيم للمشاركة من اتحاد الناشرين المصريين. وكان من المفترض أن يتم شحن كتبهم عبر ثلاث حاويات بحرية كافية للمحتوى، إلا أن ما تم فعليًا هو شحن "أربع حاويات" ما أثار تساؤلات ما زالت حاضرة بقوة حول المحتويات الإضافية.

وصل ممثلو دور النشر إلى الرباط قبل افتتاح المعرض، ليفاجأوا بغياب كتبهم. تأخر الشحنة لعدة أيام حول الأجنحة، ومنها جناح مصر الرسمي إلى مساحة خالية، ما اضطر بعض الناشرين إلى الاكتفاء ببطاقات تعريفية، أو الوقوف أمام طاولات فارغة، في مشهد شديد الإحراج.

الشحنة لم تصل حتى اليوم الخامس من المعرض في وقت كانت فيه فعالياته قد انطلقت بالفعل بحضور رسمي مغربي ومصري من بينهم وزير الثقافة المصرية، والمثير للقلق أن هناك مزاعم بتضمين شحنات لكتب غير مدرجة ضمن دور النشر المشاركة، وسفر أفراد لم يكونوا ضمن قائمة الناشرين في إدارة الملف.

2) دلالات ثقافية عميقة

البديهي للمشتغلين في حقل المعرفة أن الكتاب ليس مجرد منتج، بل هو حامل الهوية وطنية، وسفير صامت للدولة. ومشاركة مصر في المعارض الدولية، خصوصًا في العواصم الثقافية الكبرى كالرباط، لا تندرج ضمن "النشاطات الترفيهية" بل تُعد استثمارًا استراتيجيًا في ترسيخ المكانة الثقافية المصرية عربيًا وإفريقيًا.

غياب التمثيل المصري الفعلى

في الأيام الأولى للمعرض منح الفرصة لدول أخرى لملء الفراغ. كانت هناك أجنحة مغربية وجزائرية وتونسية ولبنانية وأجنحة ضيف شرف إماراتي تكتظ بالزوار والبرامج فيما بدت المشاركة المصرية باهتة، أو غائبة، رغم أنها الرسمية. الأكبر تاريخيًا في معارض المنطقة دائمًا.

هل يُعقل أن دولة مثل مصر، التي كانت تصدّر الكتب إلى كل العواصم العربية منذ عقود، وتضم أكثر من 1500 دار نشر مسجّلة، تعجز عن إيصال شحنة كتب في موعدها إلى بلد عربي شقيق؟

من المتسبب؟ ومن الذي سيحاسب؟ وكيف سنحسن صورة الثقافة المصرية؟

3) الخسائر الاجتماعية والمهنية

الأزمة تركت أثارًا مؤلمة في نفوس عشرات الناشرين خاصة المستقلين منهم. هؤلاء الذين تحملوا نفقات السفر والإقامة وتكاليف الطباعة، خسروا فرص البيع والترويج والتعاقد مع موزعين جدد.

تقديرات أولية تشير إلى أن الخسائر المباشرة تجاوزت 7 ملايين جنيه مصري، فضلًا عن الانعكاسات المعنوية التي لا تقل أهمية.

أحد الناشرين المتضررين كتب يقول:

"لم نذهب لنبيع فقط، بل لنعيد تقديم صورة مصر الثقافية إلى إفريقيا، وكنا نجهز لذلك منذ شهور. ما حدث أشبه بصفعة على وجه كل ناشر مصري".

وأشار أحد ممثلي دور النشر المصرية الكبرى إلى أن هذه الأزمة ربما تدفعهم إلى التفكير مستقبلًا في الاعتماد على جهودهم الفردية بدلًا من التنسيق الرسمي، وهو مؤشر خطير على اهتزاز الثقة بين القطاع الخاص والجهات المنظمة.

4) الأثر الاقتصادي والوطني

الكتاب هو حجر زاوية في "الاقتصاد الإبداعي" وهو ما تؤكده اليونسكو مرارًا . مشاركة مصر في المعارض الدولية ليست رمزية فقط، بل تفتح أبواب تصدير للكتاب المصري، الذى يُعد الأرخص والأكثر انتشارا في العالم العربي.

تقديرات السوق المغربية للكتاب العربي تشير إلى مبيعات سنوية تتجاوز 200 مليون درهم مغربي والمشاركة المصرية تمثل عادة ما بين 25 و30% من حجم السوق في المعارض الدولية المقامة هناك. إذن فنحن لم نخسر مجرد مبيعات، بل خسرنا حصة سوقية، وفرصة ترويجية كان يمكن البناء عليها استثماريًا.

الأخطر من ذلك هو الضرر المعنوي الذي أصاب سمعة مصر الثقافية. فأمام حضور دولي واسع بدت المشاركة المصرية متخبطة، بلا رؤية، وبلا إدارة مهنية. وهذا مشهد لا يليق بتاريخ مصر الثقافي، ولا بمستوى الطموح الذي تعلنه الدولة في محافلها الرسمية.

5) من المسئول؟ وما الحل؟

من الواضح أن هناك تقصيرًا مؤسسيًا يجب أن يخضع للمساءلة. اللجنة المكلفة بالتنسيق مع شركة الشحن، وتلك التي تابعت الشحن وتحديد آليات الشحن، كلها يجب أن تكون تحت المجهر، مجهر الدولة، مجهر المصلحة الوطنية.

محاولة احتواء الأزمة عبر "لجان داخلية" لا تكفي. أو إلصاق التهمة فقط بشركة الشحن لن يجدى، يجب تشكيل لجنة وطنية محايدة من وزارة الثقافة واتحاد الناشرين، وبعض المتضررين، بالإضافة إلى جهة قضائية أو رقابية، لفتح تحقيق شفاف.

كما أنه من الضروري وضع "مدونة سلوك مهنية" لتنظيم المشاركات الخارجية، تتضمن معايير واضحة للتمثيل، واشتراطات لوجستية، ومسئوليات مالية وآليات محاسبة، على أن تُعلن هذه المدونة للناشرين قبل كل معرض.

6) الدرس الأهم – صورة مصر أولًا

علينا أن ندرك أن العالم لم يعد يرى الدول فقط من خلال اقتصادها أو جيوشها ، بل من خلال صورتها الثقافية. الكتاب هو جزء من هذه الصورة. والمعارض الدولية باتت ساحات للنفوذ الرمزي، وفيها تُبنى التحالفات الثقافية، وتُصاغ التكتلات الفكرية.

ما حدث في الرباط ليس استثناءً، بل قد يتكرر إن لم يُواجه بالجدية اللازمة. ولعل من المفيد أن نستعيد قول "مالك بن نبي":

"كل فكرة تنجح أولًا في عالم الكتب، ثم تترسخ في عالم السياسة".

وإذا كان الكتاب لا يصل، فإن الأفكار لا تصل. وإن غابت الأفكار، غابت صورة الوطن.

کي لا يكون الرباط... بداية الانفكاك

ما حدث في معرض الرباط يجب أن يكون فرصة لمراجعة شاملة، لا لحملة تبريرات. مصر تملك المقوّم الثقافي والخبرة والكوادر، ولكن ينقصها الآن التخطيط المحترف والتنسيق بين المؤسسات والقطاع الخاص.

لن تعود مصر لقلب الخريطة الثقافية العربية بمجرد التصريحات أو دعم

المعارض، بل حين يُدار الملف الثقافي كاستثمار وطنى استراتيجي. نحن لا نطالب بمحاكمة أحد، بل بنقاش وطني صادق. فصورة مصر، ومكانة الكتاب، وقيمة الثقافة... تستحق أكثر.