عمرو منير دهب يكتب: ما المعجز في شعر شوقي؟

مهما يكن حظ المبدع من التواضع الأصيل في أخلاقه/طباعه لا ترافقْ هذه "الفضيلة" المبدعَ خلال لحظات الإبداع، وذلك إذا جاز القول بإمكانية فصل الصفة ذاتها لدى الفرد نفسه في السياقين الشخصي/الاجتماعي والعملي/الإبداعي بحيث تستصحب تلك الصفةُ الفردَ في أحد السياقين وتتخلّى عنه/يتخلّى عنها في السياق الآخر.

مع الشاعر تحديداً يُقال إن مسألة التواضع مستبعدة، ليس خلال لحظات الإبداع فحسب وإنما في حياته مجملاً. ذهبتُ في "تواضعوا معشر الكتّاب" إلى أن "برستيج الشاعر لا يزال – برغم الاختلاف في تسمية هذا الزمان رجوعاً إلى تصنيفات أدبية – هو الأعلى بين مقامات الكُتــّـاب، ولم يتورّع بعض نقاد الغرب عن أن يُنزلوا الشعراء منزلة الأنبياء تشبيهاً للإلهام بالوحي، وربما أكثر من ذلك في عرفهم؛ ثم أخذ بعض نقاد العرب اليساريين (أظنه محمود أمين العالم) ذلك التشبيه فذهب به أبعد من ذلك في مقام القداسة (حيث شبّه الشاعر بالإله). وبسبب ذلك "البرستيج" الذي يخلعه الناس على الشعراء ترتفع "أنا" الشاعر فتعلو "أنواتِ" الكُتــّـاب من كل جنس ولون أدبي، وتكاد تلك "الأنا" الشاعرية تمدّ لسانها إلى رصيفاتها الأدبية وهي تحلّق فوقها في جذل وخيلاء".

لم أكن استثناءً في قصة التواضع هذه قبل أن أستقيل من بلاط الشعر، وإنْ أكن أميل إلى الزعم بأن مسألة الفصل - التي أشرت إليها أول المقال – كانت متحققة معي إلى حدّ بعيد، إذ لا يزال بعيداً عن قدراتي النفسية/الأخلاقية الشعورُ بالتعالي في أي سياق شخصي أو اجتماعي مهما يكن ما أدّعيه لنفسي من الفرادة على هذا الصعيد الأدبي أو ذاك.

كنت إذن حين أمسك بالقلم لأشرع في كتابة الشعر أتخيّل، بل أستيقن، أنني بصدد إبداع عمل أدبي يتجاوز ما كتبه السابقون جميعاً وسيستعصي كذلك في الغالب على اللاحقين أجمعين. كان هذا الوهم الجميل، وربما الضروري بالنسبة للمبدع، يرافقني حتى بعيداً عن لحظات الإبداع بدرجة أو أخرى، ولكن فيما يخص الشعر تحديداً، بحيث أرى أن في وسعي مجاراة فحول الشعراء ومطارحتهم كلّهم على مرّ العصور. كان ثمة استثناء واحد يلوح لي متمثلاً في أحمد شوقي، حتى إذا كنت أرواغ في الإقرار صراحةً بتلك الاستثنائية، إنْ أمام الملأ أو فيما بيني وبين نفسي.

هل هذه هي إجابة السؤال عنوان المقال؟ لا بطبيعة الحال، ولكنها لا ريب مدخلي الذي يلهمني الإجابة. الشاعر الذي تحسّ حيال إبداعه بصعوبة/استحالة التخطّي يستحق لقب "شاعر استثنائي"، وعندما يكون هو الوحيد من بين كل الشعراء الذي يمنحك هذا الإحساس فإن لقبه عندك يغدو "الشاعر الاستثنائي". ولكن مجدداً، ما هو الفريد في شعر شوقي بما يجعله مستحقاً لوصفه بالإعجاز وإنْ مجازاً على سبيل الترفيع على بقية الشعراء؟

غزارة الإنتاج والتنوّع العريض في الأغراض وافتراع أبواب جديدة في الشعر من أهم ما ميّز أميرنا هذا، ولكن حتى هذه المميزات الهامة ليست مما يكفي لإثبات أن أعماله تبزّ غيرها من أعمال الشعراء، فكثيرون الذين نوّعوا أغراضهم وابتدعوا جديداً في مجالات الشعر وكان إنتاجهم الأدبي وافراً؛ فما هو الأبرز إذن من معايير التفوّق في الإبداع الشعري؟

الأهم مطلقاً صفة الشعرية؛ في "التفتيش في قلب المتنبي" رأينا أن المراد بالشعرية هو "اشتمال القصيدة – أو حتى البيت الواحد – على الصفات التي تميّز الشعر عن غيره من أجناس الأدب وألوان الكلام"، والشاعرية من ثم هي "أن تتوفّر في الشاعر الصفات التي تؤهّل قصائده لأن تنطبق عليها مواصفات الشعريّة". وتأكيداً على أن العلاقة بين الشعرية والشاعرية ليست علاقة سببية في الاتجاهين بالضرورة ذهبنا إلى أنّ "سموّ الشعرية في ديوان الشاعر إنما هو دلالةٌ على أصالة وسموّ موهبته/شاعريته؛ وإن يكن العكس ليس صحيحاً في كل الأحوال، فالشاعر الذي يُرزق حظاً عظيماً من الشاعرية لا يستثمره على الوجه الأمثل لن نقع في قصائده على مستوى من الشعرية يمكن مقارنته بآخر رزق حظاً مماثلاً من الشاعرية واستثمره أفضل استثمار من حيث العمل على الموهبة والحرص على الإنتاج والتدقيق في المنتج الشعري وتطويره".

شوقي رُزق حظاً عظيماً من الشاعرية استثمره أفضل استثمار بما جعل شعريّة إبداعه سامية إلى حدّ الفرادة والتربّع على بلاط الشعر العربي. لكن، لا نزال بحاجة إلى معرفة علامات/شواهد سموّ الشعرية هذه.

سلاسة النظم، تنوّع القاموس الشعري وثراؤه الفاحش، الانتقاء الدقيق لكل كلمة، عمق المعاني وسهولة اقتناص المراد منها، البناء المنطقي للأفكار، صعوبة الوقوع على كلمة ليست في سياقها اللغوي أو البلاغي وصعوبة استخلاص مرادف أنسب/أبلغ من أية كلمة مختارة في أي بيت، س…