"ربما سيكتب عني في يوم من الأيام هذا الرجل باع رأسه بكامل إرادته الحرة، لكنها أبدًا لم تكن حرة بل قيدوه وتجاهلوه"، يعتقد الكثير من الأشخاص أنفسهم أحرار، وأصحاب مبادئ قوية ولا يمكن أن يتخطوها أو يخترقوها، ويستنكرون كل من ينكر هذه المبادئ، ولكن ينسى الكثير منهم أن المبادئ لا يمكن أن تحددها إلا إذا تم اختبارها.
وفي العرض المسرحي "والعشاء على شرفك" الذي عُرض ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري في الدورة الـ 17، بمسرح المعهد العالي للفنون المسرحية، المأخوذ عن مسرحية "مطعم القردة الحية" للكاتب جونكور ديلمان، دراماتورج أحمد عصام، وإخراج محمد فاروق، تظهر مبادىء "وونك" "عبد الباري سعد" الذي يبحث عن الحياة، عن الأمل، عن علاج لابنه المريض، عن لومه للطبقة الغنية وتحميلها ذنب ما تمر به الطبقة الفقيرة.
يقول "وونك": "كيف يمكنك يا سيدي أن تنفق على متعتك ومِن حولك يظهر الفقر والمرض في كل مكان؟ كيف يمكنك أن ترى الجمال، والقبح يضرب فرشاته في كل الأركان! هناك أناس ينامون في الشارع هل تُدرك معنى ذلك؟ الضمير الإنساني يجب أن يرى هؤلاء الناس!"، يطرح سؤاله على "جوناثون" "محمد شحاتة" الثري.
ذكرى زواج ليست سعيدة
"جوناثون" الذي يُعد من أكثر رجال النفط ثراء في المنطقة يقرر أن يحتفل بذكرى زواجه مع زوجته في مطعم بعيد عن مقر سكنه حيث يقطع مسافة كبيرة جدًا بسبب ما يقدمه المطعم من خدمة لا تتوافر في مكان آخر، حيث يقدم المطعم وجبة عشاء عبارة عن تناول مخ قرد حيًا!
يقطع الغني المسافة للحصول على متعة ورفاهية جانبية بينما يظهر من خارج المطعم التفاف الكثير من الأشخاص من الطبقة الفقيرة أو المعدومة ينظرون لما يحدث بالداخل وينتظرون أي شخص يشعر بهم! ولكن لن يشعر بهم أحد فالأثرياء يشعرون برقيهم ومكانتهم كلما رأوهم في الخارج! يفضلون النظر للرعاع وعيونهم شاخصة تتطلع لمكانهم! حسبما كان يرى "جوناثون".
مآساة "وونك" وقلة حيلته
يأتي "وونك" الذي تم منعه في البداية من دخول المطعم بسبب عدم تناسب مظهره مع المظهر العام للمطعم الخاص بالأثرياء ولكنه بسبب "لولو" الغنية وقصة حبه القديمة يتمكن من الدخول، وفي حوار خاص بينهما نعرف مآساة "وونك" التي لا تتمثل فقط في كونه فقيرًا أو معدومًا ولا يملك حتى حسن المظهر، بل كونه كاتبًا مثقفًا يسعى لنشر روايته حتى يتمكن من الحصول على الأموال الكافية لعلاج ابنه الذي يعاني من مرض القلب وتم وضعه على قائمة الانتظار الطويلة.
قلة حيلة قرد وإنسان
ليس ذلك وحسب ولكن يرى "وونك" ضعفه وقيوده وقلة حيلته في القرد المتمثل أمامه داخل القفص ينتظر مصيره الذي سيؤول إليه بعد قليل، يتحدث مع القرد! يحثه على الهرب وكأنه يحث نفسه هو أو يحاول أن يساعد القرد بعدما وضع نفسه مكانه يريد أن ينقذه أحدًا، حاول أن يتحدث مع الأغنياء حتى يتمكنوا من ترك القرد حيًا لأنها من دوافع الإنسانية، ظل يتحدث كثيرًا عن المبادئ وكيف يجب أن يتم احترامها ولكن لا يمكن التحدث عن المبادئ قبل أن يتم اختبارها، فيظهر "وونك" بمبادئه التي يؤمن بها في أحقية الإنسان في العيش بحياة كريمة وأهمية أن يشعر الغني بالفقير لاسيما أن يتركوا الحيوان الأخرس ولا يفترسوا عقله مثلما يريدون، ولكن تنهار فجأة كل مبادئه عندما يتم اختبارها في أضعف ما يمتلك.
تبرز من خلال المسرحية دور الرأسمالية في تدني الحالة الاقتصادية لدى عامة الشعب، تظهر الطبقة الغنية بمبادئها وأفكارها والتي مثّلها "جوناثون"، والتي تختلف تمام الاختلاف مع الطبقة الكادحة المتمثلة في "وونك" فحتى الصفات التي يجب أن يتفق عليها كل الأشخاص تختلف من وجهة نظر للأخرى حتى الشرف!
تتجلى صراعات الطبقات الكادحة والغنية أكثر وتتصاعد خاصة بعد أن ينقلب احتفال الزواج السعيد لكارثة ويروي الغني كيف وصل لمكانته الحالية وكيف راهن على "الشرف" مقابل المال والسلطة والنفوذ، لاسيما حياته في نشأته حيث ولد فقيرًا وتربى في بيئة فقيرة.
يقول "وونك" وتتجلى أسباب بيعه لمبادئه بطريقة مفاجئة والتي تظهر قلة حيلته ورغبته الملحة في أن ينقذ ابنه: "أشتري طعامًا لطفل يموت ببطء شديد كل يوم أمام عيناي، ينتظر في المستشفى، الأمر ليس لغزًا طبيًا، إما أن يجري عملية جراحية معقدة أو نفقده"، ويقرر "وونك" أن يساعد القرد على الهرب، حتى تنقلب النتيجة عندما يقرر أن يمنحهم مخه مكان القرد الهارب مقابل مبلغ من المال لعلاج ابنه الصغير.
رغم سوداوية فكرة العرض المسرحي، ونهايته المأساوية التي تظهر بطريقة رمزية كيف يمكن أن يأكل كل صاحب سلطة، نفوذ، متحكم كل شخص أضغف منه، كأنه يبرز كيف يأكل العالم الطبقة الأقل منه، الأضعف منه، فتمثل مخ "وونك" ليس فقط في مجرد رفاهية قام بها من هم أهم منه ولديهم السلطة والمال مقابل فقط أن ينقذ ابنه وهو حال كل شخص أضعف في هذه الحياة، ولكن يظهر مخه الذي كان يحتوي على ثقافة عالية وأفكار لروايات وكتب بأنه ليس له قيمة مقابل المادة في عالم لم ينظر للشخص نفسه بأفكاره وما يمكن أن يقدمه للعالم ولكن ينظر له بكم يمتلك!
رغم كل ما يحمله العرض المسرحي من أفكار رمزية حقيقية إلا أن مخرج العمل لم يترك العرض بدون مشاهد كوميدية والتي قام بها، "أمير عبد الواحد" "إيفرايم" النادل.
يترك العرض المسرحي المتلقي في حيرة شديدة، بعد طرحه للعديد من الأسئلة ولعل أبرزها كيف يمكن أن تقوم بتناول "مخ" شخص لمجرد متعتك الخاصة أمام مرآى ومسمع الجميع؟ وهو ما يحدث في العالم عمومًا وليس في العرض المسرحي فحسب!