من العمل الخيري لـ "مبالغات الإعلام".. هل "معايير الجمال" خدعة؟

"أنا مشوهة"، عبارة سمعناها من بعض النجمات المشاهير، حيث تخرج كل فترة واحدة منهن علنًا للجمهور على السوشيال ميديا وعلى شاشة التلفزيون لتوضح لنا تداعيات الجراحة التجميلية التي خضعت لها، والتي كانت نتائجها "غير مُرضية" لها، وأدت إلى "تشويهها"، وفقًا لوصفها، حتى أن الأمر قد يتطور في بعض الحالات للجوء للقضاء من الطرفين بعد عدد من الاتهامات المتبادلة مع أطباء التجميل.

بعيدًا عن حالات التشوه، لكن موضوع التجميل نفسه له جذور بعيدة، وتداعيات مريبة أيضًا، حتى أنه تحول مع مرور الوقت من جراحات علاجية تعالج مشكلة أو أزمة تعيق الفرد عن ممارسة حياته بشكل طبيعي إلى "هوس" لدى البعض، و"تجارة" أيضًا وصل سوق عائداتها إلى مليارات الدولارات، كل هذا من أجل الوصول إلى ما يُسمى "معايير الجمال" التي بدورها تتطور وتتغير بحسب الزمان والمكان، فكيف وصلنا إلى هذه الحالة؟

جمال أم بلاستيك!

يُعرف الموقع الرسمي للمركز الطبي لجامعة روتشستر بالولايات المتحدة جراحة التجميل Plastic Surgery بأنها تخصص جراحي، يُستخدم لتحسين مظهر الشخص وإعادة بناء عيوب أنسجة الوجه والجسم، لأسباب جمالية أو علاجية، ويمكن إجراؤها على أي جزء من الجسم باستثناء الجهاز العصبي المركزي (الدماغ والحبل الشوكي).

وعلى الرغم من أن هذه الأنواع من العمليات الجراحية تُعرف باسم "Plastic Surgery"، إلا أن المصطلح ليس له أي صلة بمادة "البلاستيك" التي نعرفها اليوم، وإنما هو مشتق من الكلمة اليونانية بلاستيكوس plastikos، والتي تعني إعادة تشكيل وقولبة شيء ما.

انحراف المسار

الرغبة في الجمال فطرة طبيعية متأصلة في الإنسان، لذلك فإن طب التجميل جذوره ضاربة منذ القِدم، حتى دفع التطور المستمر لهذا المجال عبر السنوات إلى تأسيس الجمعية الأمريكية لجراحي التجميل عام 1931 لتنظيم وتعزيز تقدم هذا النوع من الجراحات، حتى عام 1942، الذي حظيت فيه الجراحة التجميلية بتقدير ومكانة خاصة لدى عامة الناس، عندما عمل الجراحون بكل طاقتهم لإصلاح تشوهات ضحايا الحروق والإصابات والتشوهات الناجمة عن الحرب العالمية الثانية.


المثير للدهشة أن ما بدأ كعمل وطني وخيري، قد انحرف عن مساره بشكل غريب، فخلال هذا الوقت أُجريت التجارب الأولى لـ "تكبير الثدي" على "عاهرات بيوت الدعارة" في اليابان، حيث قامت هؤلاء النساء بحقن أثدائهن بالبرافين أو الإسفنج أو السيليكون الصناعي على أمل أن يجعلهن هذا المظهر الجديد أكثر "رغبة وجاذبية" لدى الجنود الأمريكيين، إلى أن تطور الأمر وبلغ ذروته في عام 1962 بإجراء أول عملية جراحية آمنة وناجحة لتكبير الثدي لامرأة من ولاية تكساس الأمريكية على يد اثنين من جراحي التجميل الأمريكيين.

مبالغات الإعلام

يعتبر الكثيرون الإعلام هو كلمة السر في انتشار عمليات التجميل؛ بدءًا من "هوليوود"، رائدة صناعة السينما في العالم، حيث قدمت نموذجًا لمعايير الجمال ارتبط بـ "نجمات السينما والأفلام"، والتي ربما يظل أشهرها الممثلة الأمريكية مارلين مونرو، التي، على الرغم من حياتها ووفاتها المأساوية أيضًا، لا تزال مرتبطة في أذهان الجمهور بـ "أيقونة الجمال".

مع مرور الوقت، أصبحت تلك المعايير شيئًا ملموسًا على أرض الواقع بحلول القرن الحادي والعشرين، حيث تمتعت الجراحة التجميلية تدريجيًا بشعبية وانتشار كبير بفضل الدعاية الكبيرة الممنهجة، والتي زادت وتيرتها مع تزايد وسائل الاتصال الحديثة مثل الإنترنت والسوشيال ميديا، والتي كان لها دورًا كبيرًا في تعزيز "الهوس بالمظهر الجمالي" لدى عامة الناس، لدرجة أودت بحياة بعض المراهقات حول العالم إلى "الاكتئاب" و"الانتحار".

بدلًا من التناول الموضوعي وإبراز الجوانب السلبية مع الإيجابية، ركزت الدعاية الإعلامية الخاصة بالجراحة التجميلية على العمل الترميمي "المعجزة" الذي يقوم به جراحو ومنتجات التجميل لتحسين حياة الناس، حيث ساعدت الإعلانات، على شاشات التلفزيون، ومن خلال "المشاهير" و"إنفلونسرز" السوشيال ميديا، على جعل الأمر بسيطًا وقابلًا للتطبيق وفي متناول الجميع، وكذلك العديد من برامج الواقع حول العالم التي عملت على تحسين التصور العام للإجراءات التجميلية، وإيصال فكرة أنها "العصا السحرية" التي يمكن أن تكون سببًا في تغيير حياة الفرد للأفضل، وهو ما يرتبط جزئيًا بالنمو الكبير في أعداد الأشخاص الذين يخضعون لجراحة التجميل من سنة إلى أخرى.


تجارة الجمال

في الواقع، الأمر ليس "بطوليًا" من أجل إسعاد الناس كما يُروج له، وإنما هو سوق أعمال كبير جدًا يشترك فيه الكثير من الأطراف، حيث قدرت الأبحاث حجم السوق العالمية للجراحة والإجراءات التجميلية بنحوٍ يزيد عن 112 مليار دولار في عام 2022، مع توقعات نمو بمعدل سنوي يبلغ 14.7% حتى عام 2030، كما أعلنت الجمعية الدولية للجراحة التجميلية عن زيادة بنسبة 19.3٪ في تلك العلاجات في عام 2021، مع حوالي 13 مليون عملية جراحية، و17.5 مليون إجراء غير جراحي على مستوى العالم.

ليس هذا فقط، بل أدى ابتكار الشركات المصنعة للمنتجات الجمالية إلى زيادة الطلب على العلاجات التجميلية في السنوات الأخيرة، وخلق فرص نمو مربحة، حيث كشفت شركة Allergan الأمريكية، وهي شركة أدوية وعلاجات طبية كبرى معروفة بمنتجاتها الشهيرة مثل البوتوكس والفيلر وغرسات الثدي وغيرها، عن نمو كبير في السوق عبر السنوات، وذلك بفضل الطلب الكبير على منتجاتها الجمالية، مُعلنةً في عام 2020 عن إيرادات مبيعات تزيد عن "16 مليار دولار"، وهو نمو مدعوم بالابتكار المستمر، وطرح المنتجات الجديدة.

النجم البراند

بالإضافة إلى ضغط الشكل الجمالي بشأن الظهور على الشاشة، فقد وضع النمو الكبير لسوق التجميل والتسويق للعلامات التجارية، النجوم والمشاهير في مزيد من الضغط بشأن معايير الجمال والمواكبة المستمرة لأحدث الصيحات الجمالية، من خلال الاستعانة بهم للدعاية والترويج للمنتجات والماركات المختلفة، وبالتالي اللجوء إلى الإجراءات التجميلية لمحاربة علامات التقدم في السن، والحفاظ على "مظهر شبابي دائم"، للحفاظ على مكانتهم كـ "نجوم براند".

مصطلح "النجم البراند" استخدمته الفنانة ياسمين صبري بمزيد من التفصيل في لقاء مع الإعلامي عمرو أديب في برنامج "الحكاية"، عندما سألها عن حقيقة "اللايف ستايل" الذي تصدره للناس دائمًا على السوشيال ميديا، موضحةً أن تلك هي حياتها بالفعل، ووصفت الفنان بأنه "براند لوحده ماشي على الأرض"، وفقًا لتعبيرها، وأنها استثمرت في نفسها من خلال الاهتمام بالمظهر لتكون واجهة وسفيرة للعلامات التجارية.


فنكوش الجميلات

في مقال بعنوان "لم أستيقظ هكذا"، دحضت نجمة بوليوود سونام كابور أسطورة "معايير جمال" المشاهير التي لا تخطيء أبدًا، قائلةً: "لكل فتاة تتساءل لماذا لا تبدو مثل نجمات السينما، يجب أن تدركي أن لا أحد يستيقظ هكذا"، مؤكدةً أن الأمر يحتاج إلى الكثير من المال، وفريق عمل كبير، والكثير من الوقت والمجهود لتبدو نجمة السينما بهذا الشكل، واصفةً الأمر بأنه "ليس حقيقيًا وغير ملهم على الإطلاق"، وفقًا لتعبيرها.

لذلك، قبل التوجه إلى جراح التجميل للحصول على "معايير الجمال"، لابد أن نتذكر أن جراحة التجميل مثلها مثل أي إجراء طبي على الجسم البشري يقبل النجاح والفشل، وبالتالي فمعايير الجمال التي نسعى إليها عُرضة كذلك للنجاح والفشل، والأهم من ذلك ضرورة الوعي بأن تلك المعايير لا تستطيع وحدها تحقيق السعادة، أو الحفاظ على زواج مستقر وهادئ، ولا تحمي أبدًا من "الاكتئاب"، ربما لأنه ببساطة "لا شيء حقيقي، ولا أحد يستيقظ هكذا".