باسم الجنوبي يكتب: هكذا تثبت الهندسة المعمارية الأكاذيب الإسرائيلية

كانت ولا تزال الهندسة المعمارية للدول والمدن تكشف عن الكثير من أشكال سياساتها وطبيعة شعوبها، من هنا جاءت أهمية كتاب (أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي) الذي فضح سياسات الاحتلال الإسرائيلي عبر طبيعة هندسة العمارة التي يتبناها في استيطانه للأراضي الفلسطينية، وإحلالها شكلًا وموضوعًا لتناسب سكن العصابات والمستوطنين اللقطاء من شعوب العالم، ليسكنوا أرضًا لا تمت لهم بصلة حقيقية في التاريخ والجغرافيا والأديان، يعتبر الكتاب كاشفًا لتاريخ هذا الكيان الغاصب ونيته في السيطرة والتوسع، ودفع مؤلف الكتاب ثمنًا كبيرًا بعد نشره رغم إسرائيلته.

صدر الكتاب لأول مرة عام 2007، للمهندس المعماري والمفكر الإسرائيلي إيال وايزمان، الأستاذ في معهد التخطيط الحضاري والإقليمي في جامعة تل أبيب، وهو نفسه مدير الوكالة البحثية (Forensic Architecture) التابعة لجامعة لندن والتي تستخدم التقنيات المعمارية وصور الأقمار الصناعية للتحقيق في حالات عنف الدول وانتهاكات حقوق الإنسان، والتي أثبتت بتتبع تاريخ العمارة والجغرافيا ومقارنة الصور الجوية القديمة والجديدة التواجد الفلسطيني والمعيشي في مناطق قديمة قبل 1948 حاول الاحتلال الإسرائيلي محو أثرها عن طريق هدمها وبنائها مئات المرات، وأثبتت وجود مقابر جماعية ترجع إلى مجازر وإبادات جماعية (خاصة في قرية الطنطورة) قامت بها العصابات الإسرائيلية (جيش الدفاع حاليًا)، يضم الكتاب 9 فصول حول كيفية تفنن المهندس المعماري الإسرائيلي في تحصين وترتيب بنية المحتل خاصة في مدينة القدس، ليبدو بشكل واضح أن المهندس الإسرائيلي ليس مجرد مدني، بل هو عسكري يعمل بذهنية محتل محترفة تعسكر كل المجتمع الذي يبدو مدنيًا. ليكون الأمر كما قال مريد البرغوثي "طالما شكلت ثنائية الذكاء والحماقة جزءاً من المشروع الصهيوني منذ البداية".

نجح الكاتب في إثبات أن الكيان الإسرائيلي عمل منذ اللحظة الأولى على سرقة الأرض من العرب، خاصة خلال السنوات التالية لتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، التي أريد لها أن تكون نهاية الصراع حول فلسطين، حيث أصبح حصول المستوطنين على تراخيص رسمية لبناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية أكثر صعوبة، الأمر الذي جعلهم يتحولون إلى التزوير عبر وسائل أكثر تعقيداً، بهدف الحصول على مساعدة الحكومة الرسمية، التي كانت تُبدي حرصها بشكل غير رسمي على تمكينهم من المستوطنات، لكنها تخشى انكشاف دورها أمام المجتمع الدولي.

عام 1999، تقدم بعض المستوطنين بشكوى إلى الجيش، يشتكون فيها من الاستقبال الضعيف في هواتفهم المحمولة خلال مرورهم بسياراتهم حول الطريق السريع الرئيسي الذي يربط بين القدس والمستوطنات في شمالي الضفة الغربية، استجابت شركة أورنج المزودة لخدمات الهواتف المحمولة في هذه المنطقة، وأنشأت هوائياً لاستقبال الإشارة أعلى التلة المشرفة على المنعطف المقصود، لتكون موقعاً محتملاً لتنصيب سارية الهوائي، وهي القمة نفسها التي كانت مشروع استيطان لم يكتب له النجاح بعد عدة محاولات.

قبل ثلاث سنوات زعم مستوطنون أن في أعلى التلة ركاماً أثرياً يخفي تحته البلدة التوراتية ميغرون (Migron)، وأظهرت عينات التنقيب أن الآثار المتبقية هي لقرية بيزنطية صغيرة، لكن التلة حملت اسم (ميغرون) بغض النظر عن ذلك.

احتل شابان من المستوطنين التلة وأقاما في حاويتي شحن معدتين لهذا الغرض، لكنهما غادرا المكان بعد فترة وجيزة لعدم وجود رؤية التطوير الموقع بعد. تعود ملكية التلة المزروعة منحدراتها بالتين والزيتون إلى مزارعين فلسطينيين من قريتي عين يبرود وبرقة، حيث كانوا يرعون هناك أيضاً، وقد ارتأت قوات الطوارئ المفوضة من قبل الجيش الإسرائيلي أن إقامة هوائي التغطية الخلوية مسألة أمن، ويمكن من ثُمَّ تعهدها على أرض خاصة من دون الحصول على موافقة ملاكها . استجابة لطلب تقدمت به شركة أورنج، ربطت شركة الكهرباء الإسرائيلية التلة بشبكة التغذية الكهربائية، كما ربطتها شركة المياه الوطنية بنظام التروية المائي بذريعة دعم عملية بناء هوائي التغطية، دفع التأخير في تنصيب البرج المستوطنين في مايو 2001 إلى تنصيب هوائي مزيف، مع حيازتهم إذنًا من الجيش لتعيين حارس خاص للموقع على مدار الساعة.

انتقل الحارس إلى الإقامة في عربة مقطورة أسفل السارية، ووضع سياجاً حول الموقع أعلى التلة، ثم سرعان ما انتقلت زوجته وأبناؤه للإقامة معه، وقد أمدوا منزلهم بالماء والكهرباء اللذين جرى توصيلهما مسبقاً. وفي الثالث من مارس 2002 ، انضمت إليهم خمس عائلات، وأصبحت بؤرة ميغرون كياناً رسمياً، تنامى وتزايد هذا الكيان بشكل مستمر، وبنت فيه وزارة الإسكان والتعمير حضانة أطفال بحجة وجود عائلات تسكن المكان، كما وصلت مستوطنة ميغرون في الوقت الحالي التبرعات من الخارج لبناء كنيس يهودي هي الأكبر من بين 103 مستوطنة تتزايد على امتداد الضفة الغربية، وتضم ما يقارب 60 عربة مقطورة وحاوية تستوعب أكثر من 42 عائلة مؤلفة من 160 فرداً، يقيمون على التلة حول هوائي التغطية المزيف.

هكذا تستغل العمارة الإسرائيلية تستغل الجغرافيا الطبيعة وتؤسس لعمارة جديدة تدعم احتلال الأرض وتعزل العرب في الداخل عبر القرى والمدن المغلقة بالحواجز والمعابر، ما يؤكد أن إسرائيل هي دولة تنتهج سياسة الفصل العنصري (الأبارتيد) داخل الأراضي الفلسطينية، تغيب وتضيق على كل ما هو فلسطيني وعربي وتراثي.

إجمالًا، يستعرض الكتاب التحولات المعمارية التي أحدثها المحتل منذ 1948، ويحلل تركيبة المدن التي بنتها إسرائيل إلى اليوم، حيث يتناول أساليب الحصار للعرب والحماية للمستوطنين وخرائط وآليات المراقبة المستمرة، والقوانين الرسمية المجحفة التي تهدف إلى هدم بيوت العرب كعقاب وضمها للأراضي الكيان، كما يشير إلى حرص إسرائيل على سيطرتها على المجال الجوي الفلسطيني حماية للاحتلال من أي هجوم على الأرض، لذلك لا يوجد حاليًا مطار واحد فلسطيني بعدما كان هناك أكثر من مطار في القدس وغزة.

في أحد فصول الكتاب يتناول المؤلف سياسة المحتل في تصميم الحواجز ومخيمات النزوح واللجوء بحيث يتم اختراقها في أي وقت يريد، حتى بعد انسحابه من غزة، كان حريصًا أن يصمم الجدران وطرق الحصار بحيث يضمن دخوله واحتلاله إذا اقتضى الأمر، ويمهد لتسهيل حركات الطيران الحربي بداخلها بحيث تسهل عمليات القصف والاغتيالات والإبادة الجماعية للفلسطينيين وهو ما يحدث منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى كتابة هذه السطور (ديسمبر 2023)، وكل الحروب التي أقامها على غزة بعد 20005.

ويُلاحظ العالم بسهولة أن المحتل قام بتقسيم فلسطين منذ 1947 بحيث لا يخرج ولا يدخل ولا يتحرك أحد من أهل الوطن بين المدن إلا بإذن جيش العصابات الإسرائيلية (جيش الدفاع) وإلا فمصيره الاعتقال أو العمالة أو الموت على السياج والمعابر، لكن ما حدث بعد أكتوبر 2023، أن المحتل قسّم غزة (مدينة واحدة) إلى شمال ووسط وجنوب، بأحزمة نارية وقصف وطائرات استطلاع، في جريمة حرب واضحة تعدت وصف (الفصل العنصري: (Apartheid في القانون الدولي، والتي يُفترض أن تتحرك لها الدول والأمم المتحدة لمنعها أو انهائها، لكن اليوم نرى النظام العالمي والدول الكبرى تدعم هذه الجريمة أو تتغاضى عنها. وهكذا أسقطت الحرب على غزة كل أخلاقيات النظام العالمي، ما يعني إيذان بموجة عنف أشد من حماس على إسرائيل في الداخل، وموجات عنف غير مُتخيلة على كل من يدعم إسرائيل في كل العالم بلا استثناء. وبدًلا من أن يتوقع النظام العالمي هذا نراه يبحث حاليًا وضع غزة ما بعد حماس، لكنه نسى وضع العالم ما بعد الحرب، حيث نار الغضب الموقودة في قلوب الملايين من أحرار العالم تتأجج حزنًا وانتقاماُ وثأرًا لدماء آلاف الأطفال والنساء والعجائز، القادم يدعو للقلق إن لم تتوقف الحرب مع الإعتذار العالمي العملي عنها، وليته يكفي.