عبد الرحمن ناجي يكتب: أين تذهب وعود القروض بالسعادة؟

هنا الصباح، حيث أصوات العصافير ونسماته الطيبة يُبشرون بيوم نشط وسعيد، لكني أخشى أن يتم خداعي ككل يوم، لأقابلهم بابتسامات المتفائل، أنا أعلم أنه يوم ثقيل كغيره، فأنا سيدة تعيش في بلد تواجه فقر شديد. هنا بنجلاديش.. المثال الحقيقي لقولهم :"ولدت من رحم المعاناة". دولة أول ما عرفها العالم منذ ما يقرب من 50 عامًا، عرفها من خلال حرب انفصال كبرى من باكستان تخللها إبادات جماعية، أودت بحياة ما يزيد عن 3 ملايين شخص في فترة قصيرة، ثم تبعتها الكوارث الطبيعية والبشرية. 

مع كل الجهد التي تبذله الدولة، ولكن التحديات أشد والفقر هو السائد، فما بالك بسيدة ولدت وورثت فقرها ويبدو أنها ستورثه لأولادها، فأنا أم لعدة أبناء، أعيش في بيت فقير، أعاني كل يوم الكثير من التحديات، فعلي الرغم من حماسي للعمل وامتلاكي لمهارة لصناعة السلال وكراسي الخيزران؛ ما زلت أحتاج إلى فرصة عمل. ذهبت مع عدة سيدات من القرية إلى البنك مرارًا، وبلا جدوى.. لم يمنحنا الموافقة على القرض. 

لكن حتى إذا ما حصلت على القرض، فإنهم يقرضون أموالًا كبيرة، ليست مناسبة لمشروعي الصغير،حتى مقدمي الإقراض المحليين، يقدمون قروضًا لا تتناسب مع طبيعة عملنا. ليس لدي رفاهية الانتظار.. سأذهب إلى السوق لأبيع ما أصنع. لكن كان هذا اليوم مختلف بالفعل، ففي أثناء عملي قابلت أستاذ اقتصاد اسمه (محمد يونس) يعرض عليّ وعلى سيدات أخريات عددهم (42) سيدة، الحصول على قرض بقيمة ٢٧ دولار. هذه فرصة رائعة ومناسبة لطبيعة عملنا، أخيرًا سيتغير حالي، ولكن يجب أن ألتزم بدفع الأقساط النقدية في أوقاتها. الآن قد مرت عدة أشهر وقمت أنا والسيدات بسداد القرض بالكامل، وتحسنت أحوالنا وأصبحنا قادرين على الاعتماد على أنفسنا. 

ما سبق صديقي الفنجان هو قصة سمعناها عن بداية القروض الصغيرة بناءً علي ما روته الصحف عام 2006 بعد حصول أستاذ الاقتصاد (محمد يونس) علي جائزة نوبل، بيني وبينك.. أخاف أني سأحتاج إلى قرض قريبًا لأتناول القهوة بعد ارتفاع سعرها، ولكني أخاف أكثر من القروض، علي الرغم من أن الدكتور محمد يونس قد حصل على نوبل بعد إنشائه (بنك جرامين لإقراض الفقراء)، ولكن هل تعلم يا صديقي الفنجان أنه قد حصل على هذه الجائزة في السلام! نعم في السلام وليس في الاقتصاد. 

كما تعلم عزيزي القارئ جوائز نوبل العلمية مثل الفيزياء والاقتصاد، لا يتم منحها إلا بعد أن تثبت النظريات صحتها وجودتها ونفعها، وهذه أمور تستغرق سنوات، وهو ما لا يحدث في حالة جوائز نوبل للسلام والآداب مثلُا. الحقيقة يا فنجاني اللذيذ، تلك هى المعضلة، فقد حكت لنا قصة نشأة القروض عن سيدات ناجحات بعد حصولهن عن قروض مناسبة، لكن ما لم يحكوه لنا هو: ماذا لو لم يكن محمد يونس موجودًا؟، ماذا لو لم يكن هناك قروضًا صغيرة؟، هل كانوا سيبقون في أماكنهم ينتظرون الحصول على فرص الإقراض؟ أم كانوا سيبحثون عن أمل آخر؟ هل مثلت القروض الحل السحري لمشكلة الفقر؟.

 لكى تتم الإجابة على ذلك يا صديقي، قام عدد من الباحثين باختبار هذه الفرضية باستخدام أكثر الأدوات العلمية صرامة، وملخص النتائج التي خرجوا بها أن القروض لم تكن بالقدرة الهائلة التي تكلم عنها الكثير بالعالم، ولكى لا نكرر نفس الخطأ الذى وقع فيه البعض بالمبالغة فى أثر القروض، يجب أن ننظر في هذه القضية بعمق، أو كما فعلت نفس مجموعة الباحثين، قاموا بمراجعة 7 دراسات اختبرت أثر القروض على مستخدمي الإقراض في دول مختلفة، لم تكن النتائج المجمعة لتلك الدراسات مختلفة عن نتائج الدراسة الأولى. فأثر القروض الصغيرة المقدمة بشكلها التقليدي كان ما بين محدود أو معدوم!

 أعلم يا صديقي أنها مفاجأة غير سارة، خاصة بعد صرف مبالغ مالية طائلة على القروض في كثير من بلاد العالم. انظر حولك، ستجد الكثير من الناس يعانون بشكل يومي مع القروض، والذين يهربون من سدادها عن طريق الحصول على قرض آخر، وهو ما يدفعهم إلى الوقوع في ما يعرف اقتصاديًا بـ (فخ الفقر). كما أن الاعتقاد بأن كل الناس بالفطرة هم (رواد أعمال) وأنهم فقط يحتاجون إلى القروض السحرية للقضاء علي مشاكلهم، هو أمر يحتاج إلى المراجعة العاجلة. ومع ذلك دعنا نفترض أنهم (رواد أعمال)، نعلم أن المقترضين لا يصرفون كل أموال القروض في المشروعات، بل يتم صرف جزءً منها لاحتياجاتهم الشخصية، وهو ما أكدته الأبحاث السابقة. أضف إلى ذلك، أن مسئولي القروض يحصلون علي جزء غير قليل من نسبة السداد، لذا فمن المهم لديهم اختيار القادرعلى سداد القروض، وليس من هو مستحق للقروض، والفرق بين الفئتين يقول الكثير عن أزمة معقدة.

 لا بأس، دعنا نعد إلى منطق البداية عزيزي الفنجان، أعتقد أن مؤسس (بنك جرامين لخدمة الفقراء) صمم برنامجه على أسس الخبرات والنوايا الحسنة، ولكن لم يأخذ الوقت الكافي لاختبار تلك الفرضيات بشكل علمي. بحسب مقال نشرتهBBC ، عام 2010 بعنوان (وباء انتحار التمويل الأصغر في الهند)، أشار إلى أن الحكومة الهندية أعلنت عن انتحار عدد 80 شخص لعدم قدرتهم على سداد القروض، ألم يكن هذا ناقوس خطر كافي ؟ كما أن في بنجلاديش يوجد عدد كبير من الدعوات القضائية على جرامين بنك من الفقراء، حتى أن رئيس وزراء بنجلاديش شاركت هؤلاء الفقراء الرأي نفسه، ووجهت له اتهامات شديدة القسوة لمؤسسه. 

علي جانب آخر قام عدد من كبار علماء الاقتصاد مثل: ايستر دفلو وابهاجيت بانرجى ودين كارلن وكاستس ماجير وبرونو كريبون،.. وغيرهم، باختبار أثر القروض الصغيرة بشكلها التقليدي باستخدام أدوات علمية دقيقة، تبعهم باحثين دوليين بمصر باختيار أثر القروض متناهية الصغر والقروض الصغيرة، ولم تكن النتائج مختلفة، نعم .. القروض متناهية الصغر بشكلها التقليدي ليس لها مفعول السحر. 

 لذلك أقدم فريق آخر من الباحثين على اختبار تقديم نوع مختلف من القروض، وهي القروض منخفضة الفائدة، وأثبتوا أثر إيجابي كبير على السيدات، وحاليًا يتم اختبار القروض التشاركية والقروض ذات الفائدة المرنة وغيرها من أنواع ومنتجات القروض. 

صديقي اللذيذ، لا أقصد هنا التأكيد على أن كل القروض بكل أشكالها غير مفيدة، ولكن ثبت بالعلم أن القروض متناهية الصغر بشكلها التقليدي لا وجود لأثر إيجابي لها، ولكن الفرصة متاحة لاختبار وتطوير أشكال قروض جديدة ذات أثر إيجابي حقيقي على المستفيد. بلا شك بدأ الدكتور محمد يونس حركة عظيمة لتقليل الفقر، ولكن لتحقق هذه الحركة أهدافها يجب ربطها بالبحث والدليل العلمي السليم، غير ذلك سنري كما يرى العالم في بلاد مثل الهند وبنجلاديش انخفاض صارم في معدلات السداد، وقد تؤدي القروض إلى نتيجة عكسية، وتزيد الفقر بدلًا من تقليله.

صديقي الفنجان، الحل دائمًا في العلم، ولا شيء سوي العلم، لذلك لن أحصل على قرض لأتناول القهوة إلى أن يجد العلم شكل للإقراض يناسب قدرتي، يبدو إنني سأتوقف قريبًا عن تناول القهوة، قد يكون هذا جيدًا فأنت دائمًا ما تدخلني في نقاشات طويلة، وتدفعني للتحدث بصراحة مستغلا … ماذا أفعل، هل أتحدث مرة أخرى إلى الفنجان؟! أعتقد أنه حان الوقت لزيارة الدكتور النفسي، لعله يجد حلاً لنوباتي التفكيرية، أو يأتي حل علمي لمشكلة الفقر، وينقذني.. وينقذ العالم أجمع.