عبد الرحمن ناجي يكتب: حوار مع فنجان القهوة

وأشرقت شمس صباح آخر، يوزع نسماته الرقيقة لتداعب الوجوه، كعادتي ابدأ اليوم باحتساء فنجان قهوة لكن بطريقة تخالف طريقة أبي وأجدادي فاعتمد عملها بشكلها المعاصر، اسبرسو، الطريقة الدخيلة والطاغية والتي لم تكن في يوم من تراثنا العربي، الطريقة التي سافرت بلاد لتأتي إلينا لنعتمدها وتنصهر في ثقافتنا. في هذا اليوم بعد أن نظرت إلى سحابتي المفضلة نظرت إلى فنجان الإسبرسو والمغطى بطبقة رقيقة تختفي مع احتساء أول رشفة. تتشكل الطبقة كل مرة لترسل رسالة إلى يومي، في هذا اليوم وجدت الفنجان يرسم صورة ساخرة مستهزئة. لم أتقبل أن ابدأ يومي بسخرية الفنجان، سألته بشكل قاطع: ماذا يضحكك؟!، أجابني الفنجان أنه لم يقصد عدم التقدير أو الاحترام، ولكن تذكر سخرية التاريخ، قائلًا: أنت تحتسي فنجان القهوة اليوم في شرفتك دون أن تتوارى، ولكن هل تعلم أن احتساء القهوة كان محرمًا لفترة طويلة من الزمن، بل كان كل من يحتسي القهوة يتناولها متواريًا عن الأنظار خوفًا من بطش عوام الناس أو السلطات.

كانت إجابة فنجان القهوة مُقنعة، وفتح بابًا للنقاش، فأجبته: صديقي الفنجان، ليست هذه الحالة الوحيدة التي تغيرت تمامًا. انظر معي على تاريخ الطب، فمثلًا قام الإغريقيين لفترة من الزمن بعلاج الصداع من خلال عمل ثقب في الجمجمة قناعة منهم أن هذا الثقب يخلق المجال للقضاء على الصداع وهو ما تم ملاحظته بعد اكتشاف مقبرة كبيرة تعود إلى العصر الإغريقي وقد وجدوا جماجم ذات ثقوب. كما أن لفترة من الزمن كان يتم علاج الأمراض من خلال وضع دودة العلقة، التي كانت حسب قول الأطباء في ذلك الزمن تمتص السموم من الجسد فتعالج أي مراض. كما أنه من زمن ليس ببعيد كان يتم معالجة المرضي بواسطة زيوت الشموع الآتية من مقامات الأولياء. لقد ساعدتنا التكنولوجيا والأبحاث العلمية على وجود آلات حديثة وفعالة لمعالجة المرض من خلال توصيف دقيق للحالة المرضية، الأجهزة التي تتطور يوم بعد يوم تجعل قدراتنا على تحديد العرض والمرض بدقة بالغة. بالطبع يا فنجاني العزيز ما زالت هناك أمور خفية علينا ولا نستطيع تحديدها، لكن العلم يوم بعد يوم يتطور وعلوم البيانات تساعد في تحسين فهمنا وطرق معالجتنا لتلك التحديات. وصل هذا لدرجة أن وجد لقاح فيروس الكوفيد القاتل في زمن قياسي.

لكن هل تعلم ما يحزنني فنجاني العزيز، إنه ومع عدم قبول الناس لتناول دواء دون أن يُختبر وأن يتم التأكد من صلاحيته الطبية، إلا أن نفس هؤلاء قد يرون أن إيجاد حلول لمشكلات الفقر هو أمر يسير ولا يحتاج إلى دراسة. ويرون أن الحلول واضحة ومحددة وسهلة ولكن لا يتم تنفيذها. أتذكر يا فنجاني العزيز أني سألت عدد من الممارسين والخبراء في مجال التعليم الفني، وكان عددهم يزيد عن 10 أفراد عن ماذا سيفعلون إذا أعطيت كل فرد منهم ١٠٠ مليون دولار لتطوير التعلم الفني ومخرجاته على أن يتم اختيار مدخل أو ثلاث بالكثير كمدخلات لعلاج تلك المشكلة. وتركتهم لمدة ١٥ دقيقة وسألتهم عن خططتهم، وكما توقعت صديقي الفنجان لم يتفق اثنان على إجابة واحدة. كل منهم طرح إجابة بناء على خبرته وبناء على معلوماته، وفي بعض الأحيان تفضيله الشخصي.

لم أشك أبدا للحظة في النوايا الحسنة لهؤلاء، بالعكس أنا أجزم أن كل منهم كان يقصد كل خير، ولكن كما أشرنا سابقًا (إنه أكثر من نوايا حسنة). في هذه الأيام ومع زيادة معدلات الفقر وقضاء أربع سنوات من عمل الحكومات لخفض الفقر بعد آثار كورونا والحرب الأوكرانية الروسية، تشير التقارير الصادرة من يونسيف أننا بحاجة إلى 7 سنوات على الأقل للتعافي من آثارهم. الأن أصبح استخدام العلم والبيانات في مجال التنمية ضرورة مُلحة، فليس لدينا رفاهية تطوير سياسات وبرامج تنموية أو صرف موارد بناء على النوايا الحسنة فقط أو حتى خبرات شخصية فقط.

الحل الأمثل والوحيد الآن هو العلم، نحتاج إلى اعتماد أدلة علمية صارمة توجه طرق الصرف على تلك البرامج، وتحدد ماهية وفاعلية المدخلات التي يتم الانفاق عليها. وقتها، ذلك الخلاف في الرأي في كيفية تطوير التعليم الفني لن يتكرر، سيكون أمامنا الدليل العلمي الذي يلهمنا الطريق والطريقة. ذلك الخلاف في كيفية علاج تلك المشكلات لا يتعلق فقط بالتعليم الفني، بل رأيته مع خبراء في كافة المجالات مثل الحماية الاجتماعية، الصحة، توفير فرص العمل وغيرها من ملفقات تمس حياة المُهمشين والفقراء بشكل خاص وتمس المجتمع بشكل عام. يا فنجاني العزيز احلم باليوم الذي لا نحتاج إلى شرح: لماذا نحتاج إلى العلم في حربنا لمكافحة الفقر. احلم باليوم الذي يكون من الطبيعي أن يعتمد الممارسين على أدلة ودراسة كافية، وأنا متفائل أنه سيأتي اليوم الذي سيكون الاعتماد الأول والأخير على العلم، كما تحول الناس من الذهاب إلى العطار لعلاج أمراضهم وأصبحوا حاليًا يذهبون إلى الأطباء.

ما رآيك يا فنجاني العزيز؟ لماذا لا ترد؟ ماذا حدث في عقلي هل فعلا أتحدث من فنجان القهوة؟ يبدو أني لم أستيقظ بعد، صديقي الفنجان وداعًا مؤقتًا، سأحكي لك في القادم عن قصة القروض صغيرة للفقراء، ثم سأحكي لك أين ذهبت ملايين بعض المؤسسات العالمية.