عبد الرحمن ناجي يكتب: لماذا هي أكثر من نوايا حسنة؟

الاستيقاظ باكرًا هو أحد العادات التي لم اخترها ولكني أسعد بها، لم اختر يومًا أن أكون أحد أعضاء نادي الخامسة صباحًا لكن عقلي وجسدي اختارا أن ينضموا له جبرًا، فكل يوم في الخامسة صباحًا كسائر أعضاء هذا النادي، يضيء عقلي ولا أتمكن من التغلب على هذا الإحساس المفاجئ بأن اليوم قد بدأ.

استيقظت كالعادة هذا الصباح وبعد ممارسة عاداتي الصباحية، اتجهز لاحتساء قهوتي واستمتع بالجو البديع ونسمات الفجر الخلابة وأتطلع إلى السماء الصافية وأراقب كتل السحاب التي لم تفوت يومًا لإبهاري بجمالها، وتزيد روعتها إذا ما كانت تحمل في طياتها الأمطار السعيدة. دومًا ما كنت أتساءل: كم شخص يشاركني اليوم برؤية هذا الجمال؟ كم شخص مرت عليه هذه السحابة وانبهر بجمالها؟ وما هو حال هؤلاء؟

وعلى الرغم من أنها نفس السحابة، ولكن الأشخاص التي تمر عليهم يكونون في أحوال مختلفة. بعضهم يسعد بها وآخرين يتمنوا لو لم تأت ولم يبدأ الصباح الذي يمثل لهم بداية يوم آخر من المعاناة ومن مواجهة كتل التحديات أهمها الفقر. لعل السحب التي أراها كل يوم تذكرني كذلك بالاستحقاقات التي يجب أن أعمل عليها وأدافع عنها. قبل أن أغرق في تحليل بعض البيانات ومراجعة بعض الدراسات والمقالات الأكاديمية، للبحث عن حلول لمساعدة وتقليل معاناة هؤلاء، قررت أن أكتب تلك السطور والتي هي دعوة إلى التأمل والتفكر. قبل أن أشارك أفكاري في هذه السطور وما يتبعها، يجب الإشارة إلى أنها نتاج قراءة عدد كبير من الأبحاث والدراسات والمراجع العلمية التي قمت بتحليلها وشاهدت فاعليتها في تجارب عالمية وعربية.

لعل أول سؤال نحتاج إجابته: لماذا يوجد فقر في العالم؟ حتمًا تحتاج الإجابة إلى مئات الصفحات وآلاف الأيام، ولكن سنحاول هنا طرح بعض الأفكار واختبارها. أولها، هل سبب وجود الفقر هو قلة الموارد؟ بلا شك قلة الموارد هي أحد أسباب الفقر، ولكن يوجد أسباب أخرى ومنها عدم معرفة استخدام الموارد بشكل أمثل. لهذا ظهرت (فلسفة الإيثار الفعّال) في العمل الخيري، لتناقش كيف يتم تعظيم الأثر الاجتماعي للتبرعات والمساهمات في العالم. في أحد الدراسات حولها تمت الإشارة إلى أن إجمالي تبرعات المسلمين السنوية في العالم لبيوت الزكاة الرسمية فقط، تُقدر بـ 550 مليار دولار سنويًا. مع التأكيد على أن هذا الرقم ليس الرقم الإجمالي للتبرعات ولكن هو ما تم حصره في بيوت الزكاة الرسمية، وبلا شك إجمالي مساهمات المسلمين أكبر بكثير، حيث إن كثير من الأموال تذهب إلى قنوات غير رسمية ولا يتم احتسابها. إذا أضفنا له إجمالي التبرعات السنوية من المسيحيين واليهود وغيرهم، سيكون إجمالي التبرعات السنوية المرتبطة بسبب ديني فقط كبير جدًا، ربما يكون 5 أضعاف هذا الرقم، ما بالنا إذا أضفنا إليه كل أنواع التبرعات المرتبطة بأسباب غير دينية أو أسباب إنسانية مباشرة.

المبالغ التي نتحدث عنها هنا تتعدى ميزانيات بعض الدول، قادرة على إحداث فارق حقيقي في حياة الناس حول العالم.

وبما أني مغرم بالبيانات الرقمية، دعونا نترجم الرقم الخاص بتبرعات الزكاة للمسلمين فقط، 550 مليار دولار. طبقًا لبرنامج الغذاء العالمي نحتاج إلى 40 مليار دولار سنويًا حتى عام 2030 للقضاء تمامًا على مشكلة الفقر في العالم.

وطبقًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان سنحتاج 115.5 مليار دولار خلال عشر سنوات (تقريبا 12 مليار بالسنة) للقضاء على 99٪ من الوفيات أثناء النفاس في 120 دولة ذات النسب الأعلى في هذه القضية. إجمالي التكاليف المطلوبة حاليًا للقضايا السابقة هو تقريبًا 52 مليار دولار، وهو ما يقل عن 10٪ فقط من إجمالي التقديرات الرسمية للزكاة لبيوت الزكاة الرسمية للمسلمين وحدها، ما يعني أن أقل من عُشر تلك الأموال سنويًا قادر على حل مشكلتين من أهم التحديات التي تواجه العالم وفيهم المسلمين والتي تؤدي إلى وفات آلاف البشر سنوياً.

هنا يجب أن نتساءل عن فلسفة تحديد أولويات إنفاق تبرعاتنا وأموال المساهمات في العالم بشكل عام، لعل إحدى أكبر التحديات التي يجب أن نعمل عليها جميعًا، هي القرارات.. قرارات التبرع إلى المؤسسات، وقرارات الإنفاق والصرف من هذه المؤسسات، التي تتم فقط بنوايا حسنة. ونعلم أن النوايا الحسنة بمفردها غير كافية، كما يُقال "فإن الطرق إلى جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة". تحدي أولويات التبرع والإنفاق وصرف هذه التبرعات من المؤسسات والجمعيات يجب أن تكون مبينة على أدلة علمية وليس بناء على نوايا طيبة فقط أو حتى خبرات شخصية محدودة، يحتمل كلاهما الكثير من التحيز لأفكار أو أيديولوجيات أو التساهل في اختيارات الطرق الأيسر وليست الأصح، كما أشار عالمي الاقتصاد أبهيجيت بانرجي وإستر دفلو في كتابهم اقتصاد الفقراء.

إذن، هناك إجابات وحلول علمية لسؤال الفقر في العالم، منها ضرورة الوصول لبرامج تساهم بفاعلية في خفض معدلاته وتحقق الاستحقاقات الواجبة علينا جميعًا لمحاربته. في مجموعة المقالات القادمة سنستكمل النقاش حول أسباب وضرورة عدم اتخاذ أي قرارات آنية بناء على نوايا طيبة فقط دون الاعتماد على أدلة علمية، وسنطرح مجموعة من الحلول والبرامج المبنية على أدلة صارمة للتمكن من تعظيم الفائدة من أعمالنا، وتحقق أكبر أثر إيجابي ممكن للعطاء في العالم، وأرجو أن نرى جميعًا السحب الصباحية تمر على عالم بلا فقر وبلا معاناة.