عبدالرحمن جاسم يكتب: هل دخلت الدراما السورية مرحلة الكوما؟

عبد الرحمن جاسم

مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، بدا أن الدراما السورية قد بدأت تتنفس وتنطلق وبقّوة. عبد الرحمن جاسم

بدأت مسلسلات من نوع “أيام شامية”(1992، كتابة أكريم شريم، وإخراج بسام الملا)، “حمام القيشاني”(1994، كتابة دياب عيد، وإخراج هاني الروماني)، “نهاية رجل شجاع”(1994، تأليف حنا مينة وحسن م يوسف، وإخراج نجدت إسماعيل أنزور)، “عيلة خمس نجوم”(1994، كتابة حكم البابا، اخراج: هشام شربتجي)، يوميات مدير عام(1995، كتابة زياد نعيم الريس وإخراج هشام شربتجي)، و”خان الحرير”(1996، كتابة نهاد سيريس، وإخراج هيثم حقّي)،”الفصول الأربعة(1999، كتابة دلع الرحبي وريم حنا، وإخراج حاتم علي)، “الخوالي(2000، كتابة أحمد حامد، وإخراج بسام الملا)، تقتحم الفضاء لا السوري فحسب، بل العربي أيضاً، وقدّمت نفسها على أنّها منافس قوي وحقيقي للدراما المصرية التي كانت ولاتزال متسيدة الفضاء الدرامي العربي بشكلٍ متفرّد. احتدمت المنافسة منذ ذلك الحين، وإستمرت حتى العشرية الأولى من القرن الجديد، وصولاً حتى العام 2011 مع بداية الأزمة السورية، ساعتها عانت الدراما السورية أيما معاناة وبدا أن الإنتاج الدرامي السوري بات قاب قوسين أو أدنى من مرحلة “كوما” ومخاضٍ مرعبين حتى مع التجارب القليلة الناجحة التي تخرج والكثير من المسلسلات التي لايمكن مشاهدتها أو متابعتها حتى.

عبد الرحمن جاسم

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: مسلسلات زمان ومسلسلات الآن

يأتي مسلسل “باب الحارة”(جزءه الأوّل في العام 2006، كتابة مروان قاووق، وإخراج بسام الملا)، كواحد من أنجح وأفشل مسلسلات الدراما التي أنتجتها الدراما السورية في آنٍ معاً. نجاح الجزء الأوّل والثاني من المسلسل دفع بالدراما السورية للأمام وجعلها تدخل البيوت بإندفاعٍ قل نظيره في العام 2006، حتى إن المسلسل أصبح له “متابعون مخلصون” أشبه بالطائفة (cult followers). زينت جمل الأبطال، وسلوكاتهم، وتصرفاتهم وطريقة حديثهم معظم أحاديث الشارع في تلك المرحلة؛ واشتهرت شخصيات “عكيد الحارة” و”معتز” وحتى “الشرطي” أبو جودت. المسلسل المبني على قليل من الحقائق التاريخية، والكثير من المتخيل “الشعبوي” فتن الناس، لكنه أرّخ لأخطاءٍ درامية كبرى كطريقة معاملة المرأة، وسلوك الرجال، وشجاعتهم المبالغ بها، وسواها من الأمور التي أضحت جزءاً من كليشيهات العمل الدرامي والذي يسمى “البيئة الشامية”.

عبد الرحمن جاسم

أعمال البيئة الشامية انطلقت بعدها كما لو أنّها “ماردٌ” أطلق من “قمقمه”: أصبح كل موسم درامي رمضاني يزدان بالعديد من أعمال البيئة الشامية التي تدور في ذات المرحلة التاريخية و “يلا يا رجال”. بعد أقل من خمس سنوات، أصبح الأمرُ ثقيلاً للغاية: تكررت الحكايات عينها، أعيدت ذات الثيمات، والصبغات؛ وبدأ الجمهور “يمل”، لكن صناع الدراما لم يفعلوا، بل أصروا وحتى موسمنا الحالي على هذا النوع من الأعمال. إذ يكفي أن نشير إلى أنَّ العام الحالي يحمل حوالي السبعة إلى العشرة أعمال من هذا النوع. “حُلِبَ” “باب الحارة” بكل ما للكلمة من معنى، إذ يكفي أن نعرف بأنَّ المسلسل الحالي هو في جزءه الثالث عشر؛ وقد تغيّر جميع أبطال العمل “تقريباً”، تغيّر “صناعه”: مخرجه، كتّابه، ولربما حتى المصورون والمخرجون المنفذون. حتى الحارة التي يحمل إسمها –أي حارة الضبع- هجرها أبطالها وسكنوا في حارةٍ أخرى (ولربما عادوا إليها في هذا الجزء). وعلى الرغم من فشل هذا الجزء من المسلسل كما جزئيه السابقين (أو أكثر) منه، إلا أنَّ صنّاعه لايزالون مصرين على إكمال أجزاءه في تحدٍ غير مفهوم، أو منطقي حتى.

عبد الرحمن جاسم

هنا يكون السؤال: لماذا يذهب صنّاع الدراما لهذا النوع من الأعمال؟ الإجابة بسيطةٌ للغاية: إنهم يهربون من الحديث عن “المجتمع السوري” الحالي. هذا “الحديث/الصنعة” اختفى بشكلٍ كبير خلال الأعوام الفائتة، الصبغة السحرية الجميلة التي جعلت الجمهور يتعلّق بالدراما السورية، ويتقارب معها، ويسمح لها بدخول قلبه لصدقها وحرفة صنّاعها واقترابه من عقله قبل قلبه. اليوم انقلب الأمر، فإن قارب صناع الدراما الحاليين “المجتمع السوري اليومي”، قاربوه على طريقتين إما الكوميديا المستهلكة السطحية والتي لاتضحك أحداً، أو قصص حول الحرب بطريقة مبالغ فيها وكاريكاتورية حتى كأن نجد شريراً ينتف دجاجة وهي حيّة كي يظهر مدى شرّه؛ وهذا كان دليلاً على افتقادها للسحر “الكبير” الذي عاشته الدراما السورية سابقاً.

الأمر الآخر والذي أعاق الدراما السورية كثيراً هو “ضحالة كتّاب الدراما” الموجودين، وعدم قدرتهم على “الإحاطة” بما يحدث حولهم مع غياب حقيقي لنصٍ قوي يلامس الناس (سوى بعض الحالات الفردية والمعدودة على الأصابع)؛ في الإطار عينه، أدّى تشتت المجتمع السوري الحالي، والمشاكل الكبيرة التي خلّفتها الحرب إلى إبعاد معظم الأسماء الكبيرة التي زينت الدراما السورية وصنعتها مثل ريم حنا، ويم مشهدي وحسن سامي يوسف، وسواهم.

عبد الرحمن جاسم

النقطة الثالثة هي ما يمكن تسميته “غياب النقد والمحاسبة” وانتشار “الهوليوود سمايل” بين الممثلين والممثلات السوريين والسوريات: المعنى المقصود هنا، أنه كيف يمكن مثلاً لممثلة تؤدي دور فتاة “فقيرة” للغاية، تعاني من “جوعٍ” شديد وعوز، أن تمتلك “هوليوود سمايل”(التوصيف هو لصف الأسنان الناصعة البياض والتي صار “يركّبها” معظم الممثلين حالياً)؟ أو كيف يمكن تقبّل فتاة “معوزة” تبحث عن عمل فيما هي “منتفخة” الأوداج بالبوتوكس والفيلر و”النفخ والشفخ” الذي يكلّف آلاف الدولارات؟ هذه الأخطاء لم تكن لتحدث في السابق، كان المخرج أو منفذ العمل يمنع هكذا “أخطاء” كارثية من الحدوث. النقطة الأخيرة هي غياب “النقاد” الحقيقيين للدراما السورية، سواء أكانوا “نقاداً” أم “مخرجين” أو “صحافيين” أو حتى “ممثلين” محترفين مهرة.

عبد الرحمن جاسم

غياب هؤلاء وغياب “توجيهاتهم” و”نصائحهم” وعدم “سماع” أو “تقبّل” الصنّاع والممثلين الحاليين لأي “انتقاد” أو “توجيه” من أي نوع متسلحين بمجموعة من “الصحافيين” و”المؤثرين”(على السوشيال ميديا) و”عشاق فنانين” كلهم غب الطلب الذين تكمن مهمتهم في أن “يطبّلوا” للأعمال وللممثلين مهما كانت أعمالهم سيئة أو رديئة. مزج كل هذه الأمور أدى حكماً إلى “ترنّح” الدراما السورية بشكلٍ مرعب هذا العام، ولولا مسلسل “الزند: ذئب العاصي”(كتابة عمر أبو سعدة، وإخراج سامر البرقاوي) لكان موسم الدراما السورية لهذا العام “كارثياً”؛ وللعلم فحسب فإن نجاح “الزند” كمن في نقطتين رئيسيتين الأولى مهارة الكاتب أبو سعدة، وثانيهما إبداع تيم حسن الإدائي الكبير. هذا الأمر –أي نجاح “الزند”- وفشل بقية المسلسلات لم يكن “فريداً” فقد تكرر الأمر في الأعوام السابقة، إذ مثلاً نجحت مسلسلاتٌ يمكن أن تُعد على الأصابع وحافظت على مستوى الدراما السورية المرتفع بعد وخلال الأزمة السورية ونذكر منها على سبيل المثال: “الندم”(2016، كتابة حسن سامي يوسف، وإخراج الليث حجّو) و”ضبو الشناتي”(2014، كتابة ممدوح حمادة وإخراج الليث حجو)، مقابلة مع السيد آدم(2020، كتابة وإخراج فادي سليم)؛ في المقابل في تلك الأعوام فشلت بقية المسلسلات في أن تكون مشابهةً نجاحاً، إداءاً، أو مهارةً على الرغم من كل ما يمتلكه الممثلون/المؤدون السوريون من مهارةٍ مرتفعة.

ملاحظة مهمة (epilogue)

قد يكون كلامي هذا قاسياً، أو لربما حتى قد لايتقبّله البعض بالسلاسة المطلوبة، لكنه ضروري لأن الدراما السورية يقودها صنّاعها الحاليون ناحية نوع من أنواع “الكوما” إذا لم يتنبهوا فأن ينقسم الموسم الدرامي السوري إلى “مسلسلات بوليسية” و”بيئة شامية” فحسب، هذا لايعني إلا أنَّ صناع الدراما غائبون في اللا لا لاند، لا أكثر ولا أقل.

عبد الرحمن جاسم