عمرو منير دهب يكتب: اللاعب الوحيد الذي لا غنى عنه.. الفصل الثالث عشر من كتاب "نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً"

تُشير بدايات تاريخ كرة القدم إلى حضور باهت لحارس المرمى، بل ربما إلى غياب واضح لملامح شخصية هذا الدور الذي لم يكن يضطلع به لاعب بعينه وإنما يُوكل إلى أكثر من لاعب بالتناوب. وإذا كانت ملامح الدور وشخصية مؤدّيه قد اكتملت بوضوح منذ أكثر من مائة عام وقبيل تأسيس البطولات الرسمية المعروفة على اختلافها في أرجاء العالم حتى أصبح الحارس هو اللاعب الأكثر تفرّداً من حيث طبيعة الدور وملامح الشخصية (القفازين والقميص والرداء المختلفين عن بقية اللاعبين)، فإن حارس المرمى لا يزال بمثابة “الجندي المجهول الأول” في الميدان، على اعتبار أن لقب “الجندي المجهول” يتقاسمه معه المدافعون بصفة عامة – قياساً إلى لاعبي الوسط والمهاجمين على نحو ما أشرنا في المقال السابق – وأحياناً بعض لاعبي الوسط والمهاجمين عندما يصبّ أداؤهم المؤثر في مصلحة لاعبين آخرين محظوظين بموهبة سرقة أنظار الجماهير وعدسات الإعلام.

في كتاب “كرة القدم اليابانية”، الصادر عن دار هماليل في أبوظبي سنة 2015، يذكر ريان الجدعاني أنه: “في المباراة الافتتاحية من الألعاب الآسيوية التي جمعت بين منتخبي الصين واليابان لفئة الأولمبي (تحت 23 عاماً) تعرض شبان الصين لضغوطات رهيبة من قبل الجماهير الصينية التي كانت ترفض فكرة الخسارة أمام العدوّ التاريخي للبلاد، لتنتهي المباراة بفوز سهل لأولمبي اليابان بثلاثة أهداف نظيفة. تلك الخسارة القاسية في المباراة الافتتاحية جعلت الجماهير الصينية وأيضاً وسائل الإعلام الصينية تنتقد بشدة الحارس الصيني المغلوب على أمره – ويُدعى وانغ دالي – الذي لم يتمكن من صد الأهداف الثلاثة، حيث شهدت أغلب الصحف الصينية كتابة تقارير مطولة ضد الحارس ووصفه بالضعيف والمهزوز بجانب قيام الجماهير الصينية بشتم الحارس في مدونته الإلكترونية الخاصة”.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: بين جينتيلي ومالديني وماتيراتزي.. الفصل الثاني عشر من كتاب “نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً”

يواصل الجدعاني الحكاية: “قيام الجماهير والإعلام الصيني بحملة مكثفه ضده وتحميله مسؤولية الخسارة أمام العدوّ اليابان أجبر الحارس وانغ دالي على فقدان أعصابه ليكتب في مدونته الإلكترونية كلاماً قذراً كان أخفّه: جماهيرنا أغبياء وهم سبب تدهور الكرة الصينية!”. يكمل الجدعاني: “وقد وصلت الأمور إلى أسوأ مراحلها عندما قام بعض الجماهير بالرد على انتقاداته عبر مدونته الإلكترونية ليوجه الحارس وانغ كلمات غير لائقة في حق زوار مدونته قبل أن يختم كلامه بالقول: أنتم مجرد كلاب!”.

القصة أعلاه تلخّص واحداً من أسوأ المواقف التي يمكن أن يتعرض لها حارس مرمى، ولكن ما دون ذلك من التجارب التي يخوضها حرّاس المرمى في العادة أيضاً ليس هيّناً بحال. أسباب صعوبة وحرج مواقف حراس المرمى – أكثر من كونها مردودة إلى طبيعة جماهير انفعالية أو إعلاميين يتوقون إلى كل ما هو مثير – تبدو متعلّقة في المقام الأول بطبيعة دور الحارس، فأخطاء اللاعبين جميعاً يمكن تجاوزها في الغالب بقدر أو آخر مقارنة بخطأ حارس المرمى الذي يكلّف فريقه هدفاً مباشراً أو أكثر. ولعل الخطأ الوحيد الذي تتجاوز كارثيّته خطأ حارس المرمى المتسبب في هدف هو تسديدة قوية من زميله المدافع تدخل المرمى على عكس نية المدافع إبعادَها إلى أي اتجاه آخر، وهو أمر قليل الحدوث قياساً إلى أخطاء الحرّاس الوارد وقوعها بصورة أكثر تكراراً بالنظر إلى طبيعة مركزهم على أرض الملعب.

نادراً ما يكون حارس المرمى محظوظاً بإعفائه تماماً من مسؤولية هدف لأن المهاجم الخصم – على سبيل المثال – كان بالغ البراعة في تنفيذ تسديدة قوية ومُحكمة من مسافة قصيرة، فالجماهير في مثل هذه الحالة تنتظر من حارسها أن يبادر بعملية تصدٍّ “مستحيلة” لتغدق عليه عبارات الثناء والتمجيد لا أن يعانق الهدف “مستحيل التصدي” شباك المرمى لتلتمس لحارسها الأعذار.

على كل حال، مثل الجميع – ليس في كرة القدم وحدها وإنما على كل صعيد – حرّاس المرمى متفاوتون في حظوظهم من حيث الأداء والإنجاز والشهرة. الأرقام وحدها لا تكفي لإبراز مكانة الحارس، فالإحصائيات قد تظلم حارساً عملاقاً لم يحظ باللعب في صفوف أندية قوية أو منتخب يمتلك دفاعاً حديدياً، ليصبح – والحال كتلك – القسط الأعظم من مهمة الحفاظ على شباك الحارس نظيفة مُلقى بين قُفّازيه. إلى ذلك، ثمة من حراس المرمى مَن أحبتهم الجماهير لتصدّياتهم البارعة أو أسلوب لعبهم الفريد رغم أنهم تسببوا في بضعة “كوارث” كروية بسبب ذلك الأسلوب الفريد في أحيان ليست بالقليلة. وثمة من الحرّاس مَن اشتهر بسبب شخصيته أساساً وليس لمجرّد براعته الفنية في المستطيلات الخضراء بين القائمين والعارضة.

لعل السوفيتي/الروسي ليف ياشين هو أشهر حرّاس المرمى بصفة عامة على مرّ العصور. ورغم إنجازاته الكثيرة فإن تتويجه بجائزة الكرة الذهبية قد رسّخ مكانته وشهرته على الأرجح، كونه حارس المرمى الوحيد الذي حظي بذلك الشرف الكروي العظيم.

الإيطالي دينو زوف عملاق آخر في حراسة المرمى حطّم أكثر من رقم قياسي، وهو أكبر لاعب فاز بكأس العالم، عندما كان قائداً لمنتخب إيطاليا سنة 1982. يرجع إلى زوف كما يشار “شرف” أحد التغييرات البارزة في قانون كرة القدم بعد أن لم يعد بإمكان الحارس دحرجة الكرة ثم التقاطها بيده أكثر من مرة، وذلك عقب تفنّنه في إضاعة الوقت في مونديال 1982 وفريقه متقدم من خلال دحرجة الكرة ثم التقاطها ومعاودة ذلك الصنيع مراراً. كان تقدير مخالفة إضاعة الوقت حينها – بصفة عامة – متروكاً لرؤية الحكم الشخصية إلى حد بعيد.

الإنجليزي بيتر شيلتون محطّم أرقام قياسية آخر، فهو اللاعب الأكثر مشاركة في المباريات الرسمية في تاريخ اللعبة على الإطلاق بما يقارب 1400 مباراة، وهو حارس مرمى المنتخب الإنجليزي لعشرين عاماً متتالية. أما مسيرته الكروية فقد امتدت إلى ثلاثين عاماً في زمن – كما يشير البعض – كان الناس ينظرون خلاله إلى اللاعب الذي بلغ الثلاثين عاماً على أنه أوشك على ختام مسيرته الكروية، وربما اعتزل بعض اللاعبين حينها وهو حوالي الثلاثين من العمر.

الألماني هارالد شوماخر حارس شهير على المستوى العالمي، لكنه لم يكن صاحب سمعة طيبة من حيث دماثة أخلاقه بحال، ولعل أكثر مشاهده إثارة للاستياء (استياء الفرنسيين بصفة خاصة) هو احتكاكه المدمّر بالفرنسي باتريك باتيستون في نصف نهائي مونديال 1982، الاحتكاك الذي كلّف باتيستون كسوراً في الفك والأضلاع وأفقده الوعي واثنتين أو ثلاث من أسنانه دون أن يحتسب حكم المباراة أية مخالفة على شوماخر.

أوليفر كانْ حارس عنيف آخر من ألمانيا فاق لاحقاً شهرة هارالد شوماخر لكنه لم يكن في مثل سوء طباعه، بل حظي بشعبية واسعة خاصةً في موطنه ألمانيا، وهو أول حارس مرمى ينال جائزة أفضل لاعب في المونديال (سنة 2002).

هناك من الحرّاس البارعين مَن بدأ مسيرته الكروية في مراكز بعيدة عن المرمى على خطوط الهجوم الأمامية مثل الإيطالي جانلويجي بوفون والألماني تير شتيغن، وذلك قبل أن تقود كلّاً منهما الصدفة – بعد إصابة/غياب الحارس الأساسي للفريق وإحلاله محله – إلى اكتشاف مهاراته التي تتفوّق باليدين بين القائمين والعارضة على مهاراته بقدميه كمهاجم كان يطمح أساساً إلى تسجيل الأهداف وليس منعها من الدخول.

ومثلما أن من المهاجمين من يبرع في تسجيل أهداف من مواقع بالغة الصعوبة ويضيع أهدافاً في حكم المؤكدة (لويس سواريز مثالاً)، فإن من حرّاس المرمى المشهورين من يفعل الشيء نفسه ولكن في الاتجاه المعاكس لطريق الكرة، فتير شتيغن بارع في التصدّيات شبه المستحيلة ومثير لدهشة عشاقه من ترك كرات سهلة تعانق شباك مرماه.

الكولمبي رينيه هيغيتا من حرّاس المرمى البارزين عالمياً، ليس ابتداءً لبراعته الفنية المطلقة ولكن ربما أساساً بسبب ملامح شخصيته وأسلوبه الاستعراضي غير المتوقع في أحلك لحظات المباراة إلى حدّ تلقيبه بالمجنون. جيرمن بورغوس Germán Burgos هو نسخة هيغيتا الأرجنتينية الأقل شهرة.

عربياً أتذكر حسن علي حارس نادي الترسانة والمنتخب المصري الذي كان يشار إليه في السبعينيات الماضية أحياناً بالبهلوان/البهلواني، لكن للأسف يبدو أن أرشيفنا الرياضي عربياً أضعف في بعض الأحيان من بعض أضعف ذاكراتنا، إذ لم أقع على الكثير مما يمكن أن يدعم زعمي حول بهلوانيات حسن علي. وجدت لقاءً أو لقاءين وبضعة مقاطع عامة على الإنترنت حول حارس سبعينيات مصر الشهير الذي كان على الأرجح “يتفنّن” ويبالغ أحياناً في قفزاته وهو يحاول الإمساك بالكرة، لكنه على كل حال لم يبلغ ما بلغه هيغيتا وبورغوس لاحقاً من جرأة/جنون العبث بالكرة على خط المرمى مهما تكن اللحظات حرجة من عمر المباراة ومصيريّة بالنسبة للفريق الذي يذودان عن حياضه.

للتواصل مع الكاتب: ([email protected])