بنات عبد الرحمن.. وراء كل امرأة تعيسة رجل!

بنات عبد الرحمن
إيهاب الحضري

بإيقاع رتيب يتناسب مع حالة ملل تعيشها زينب “فرح بسيسو” مع والدها عبد الرحمن “خالد الطريفي”، يبدأ الفيلم ليمنح المُشاهد تفاصيل غير المُكتملة، مُحتفظا بلحظات الكشف ليوزعها على مسار الأحداث، مما يجعل الرتابة تتراجع تدريجيا، وسط حالة من التشويق تُضفي على المفاجآت قوة دفع تدعم تصاعد الأحداث.

أربع نساء ينتمين للأب نفسه، غير أن الاختلافات بينهن شاسعة إلى حد التناقض، الأصل واحد والفروع متباينة الاتجاهات والقناعات، بينما يبقى العامل المشترك بين النساء هو عُقد نفسية، قد لا تصل لدرجة المرض، لكنها تنجح في تصنيع أزمات تختزنها كل منهن بداخلها، مع الفتْح التدريجي لصناديق الأسرار، نكتشف أن الجاني الأساسي هو الأب الذي يعرفه الحي بلقب “أبو علي”، رغم أنه لم يُنجب سوى البنات! اللقب هنا يُعبرعن حُلم مُجهض بابن لم يظهر للوجود، مما يجعل الوالد يمارس سُلطته الذكورية النابعة من مجتمع تتحول التقاليد فيه إلى قيود، يستسلم الجميع لقهرالواقع، فيتحولون -رجالا ونساء- إلى مجني عليهم، بعضهم يُحاول التخلص من إحساس المفعول به فيتحول إلى فاعل يفرض سطوته على الآخرين، بسطوة الدين أو العُرف أو حتى البلطجة الشفاهية!

حاول المؤلف والمُخرج زيد أبو حمدان تحقيق المعادلة الصعبة، بمخاطبة الجمهور العام، عبر حكايات تستطيع أن تجذب انتباهه دون ملل، والتوجه للمُثقفين في الوقت نفسه بلُغة الرمز المُفضّلة لديهم، وهكذا ظهر الرمز عبْر مُستويين، هما الأحداث والمُفردات، فاختفاء الأب جاء مباشرة بعد مشاهدة ابنته التي فاتها قطار الزواج، وهى ترتدي ثوب زفاف تُطرّزه لعروس من قريباتها، وبعد رحلة بحث طويلة يتم العثور على الأب في نهاية الفيلم بالمقابر! الاختفاء بدأ برمز الفرح الذي فجّر بداخل الأب طاقة حُزن دفينة، ورغم فقده الهيمنة القديمة بفعل التقدم في السن وآفة النسيان، إلا أن هيمنة الماضي تظلّ مُسيطرة على زينب، لهذا تشعر بمزيج من الخوف والخجل من الأب الذي شاهدها فجأة في ثوب زفاف لا يخصها، تحاول التبرير رغم أنها أصبحت في الموقف الأقوى بحكم تسييرها لأمور البيت والإنفاق عليه بعملها كخيّاطة، ومع ذلك تسعى للحفاظ على الصورة القديمة، بشراء معروضات مكتبة والدها وإيهامه بأن الإيراد يتحقق من المبيعات، أنها محاولة للحفاظ على صورة الأب رغم أننا نكتشف أن النساء الأربعة، يُحمّلن طُغيانه مسئولية مصير كل منهن، ويأتي مشهد العثور على الأب المُختفي وسط المقابر، ليطرح تفسيرا مُحتملا، يوحي بانهيار السلطة الذكورية المُطلقة، وتراجع منظومة القيم التي توارثناها فأورثتنا الكثير من المُشكلات.

نرشح لك: “بنات عبد الرحمن” يحصل على جائزة يوسف شريف رزق الله بمهرجان القاهرة

في الوقت ذاته يُقدم العمل فرصة مناسبة، للراغبين في اقتناص المفردات الرمزية، بهدف الوصول إلى تأويل أكثر عمقا للأحداث، ومنها جهاز الراديو القديم، وقطع القماش التي تحتفظ بها زينب من كل فستان تقوم بتفصيله، والعود المهمل، والمصباح الكهربائي المعطّل باستمرار رغم حداثة تركيبه على المدخل، لكنه يضىء في النهاية تلقائيا بعد الكشف عن خفايا الشخصيات الرئيسية، وانتصار السعادة في لحظة نهاية مؤقتة، فضلا عن اسم الابنة الصُغرى ختام” مريم الباشا”، الذي يمكن تفسيره واقعيا بأنه قرار من الأب بوقف رحلته مع الإنجاب، غير أن هناك تفسيرا مُختلفا، يتمثل في أن شخصيتها تختتم الفكرة التي يتبناها العمل وينحاز إليها، وهى أن حُرية الاختيار أساس الحياة السوية، فرغم أنها خالفت التقاليد وجلبت العار لأسرتها، عندما اختارت أن تعيش في دُبي مع حبيبها دون زواج، إلا أنها تبدو صاحبة العلاقة الأكثر نُضجا بين شقيقاتها، حيث ينتهي الفيلم بقدوم حبيبها للزواج منها، ليحقق الهدف من عودتها في بداية الفيلم، للحصول على مباركة الأب بعد سنوات من القطيعة، وكان خبر قُرْب عودتها أحد مبرّرات اختفاء والدها.

رغم أن الأب يبدو منفصلا عن العالم، إلا أن حضوره الرمزي احتفظ بسطوته، لكن بمجرد اختفائه انهارت الهيمنة، وبدأت الأسرار تتكشف تدريجيا، فالابنة المُنقبة آمال” صبا مبارك” تبدو طول الوقت ناقمة على سلوك أختها المتحرّرة سماح” حنان الحلو” التي تُدخّن بشراهة وتُطلق الشتائم الوقحة معظم الوقت، غير أن آمال تتمرّد فجأة على زوجها الذي كان الارتباط به سببا في تركها التعليم، وترفض تكرار التجربة مع ابنتها التي لم تتجاوز خمسة عشر عاما، وتسبق زوجها إلى المدرسة لتأخذها وتُنقذها من زواج يُفترض أن يتم في اليوم نفسه، ثم تنقض على مقعد قيادة سيارة شقيقتها سماح، وتقودها برعونة تكشف الجانب الخفي من شخصيتها وسط دهشة شقيقاتها وابنتها، ونكتشف بعد ذلك أنها تُدخن، مع أنها كانت تبدأ في السُعال مع كل سيجارة تُشعلها شقيقتها. ويأتي صفعها لزوجها المُستبد، بعد هجومه على منزل والدها، لتؤكد فكرة الخلاص، وتتفاعل مع ما شاهدناه في” الماستر سين” الخاص بشخصيتها، عندما طار النقاب وكشف وجهها المُتحفز خلال المطاردة بين السيارتين. أما” ماستر سين” سماح، فحدث عندما نجحت أخيرا في الاتصال بسيدة تشك أن زوجها على علاقة بها، وأنها سافرت معه هو وشريكه في العمل، فتواجهها السيدة الأخرى بالحقيقة الصادمة، أو بالأحرى تفضحها أمام نفسها وتكشف لها ما تهرب من مواجهته. إن زوجها شاذّ لا يخونها مع امرأة أخرى، بل مع رجل مثله!

تظل زينب مُحتفظة بأسرار مكثفة تختزنها حتى النهاية، عندما يعلو صوتها وسط الحي في مشهد أقرب للمسرح من السينما، لتكشف أسرار بيوت تدّعي العفّة وداخل كل منها فضيحة موقوتة، وهو ما يُمهد لصفعة أخرى توجهها شقيقتها سماح للشاب المُتحرش، فيبدو الأمر وكأن طاقة التمرد بلغت قوتها القصوى في نفوس الشقيقات الثلاث، ليمضين في سياق واحد مع الأخت ختام، التي ظلت متهمة بالخروج عن أنساق المُجتمع لسنوات، ويتضح أنها كانت الأكثر حكمة عندما ينتصر الفيلم لها، بنهاية سعيدة تثير التفاؤل، وتتحد مع قصة حب تتشكّل بين الفتى زياد، الذي يعمل في مكتبة الأب، وبين البنت الصغيرة التي نجت من زواج مُبكّر جدا، كان يُمكن أن يلتهم أنوثتها الناشئة، غير أنني أتحفظ على السرعة التي مضت بها العلاقة، وانتهت بأن يمسك الفتى يد الفتاة دون مبرّر سردي، ويبدو أن الرمز وحده كان المُسيطر على المؤلف في هذه اللحظة.

لماذا التركيز على السيناريو دون عناصر العمل الفني الأخرى؟ لأنه أقوى العناصر، بعد أن منحه الأداء التمثيلي زخما، وتابع المُشاهد مباراة ساخنة في الأداء، خاصة بين فرح بسيسو العائدة بقوة جارفة بعد سنوات غياب، وصبا مبارك التي تملك طاقة مُتفجرة من الإبداع، وقدمّتْ حنان الحلو أداء منح العمل مذاقا بالغ التميّز. لا يعني ذلك أن الصورة مثلا ضعيفة، بل يُمكن الحكم بتميزها، لكنها لا تُقدم إبهارا سينمائيا غير معهود، لا أتذكر مشهدا جعلني أهتف إعجابا، غيرأنني في المقابل لم ألتقط سقطات فنية، ربما يكون ذلك ناتجا من كون المُخرج هو نفسه كاتب العمل، فجاء انحيازه لأحد عناصره على حساب الآخر.

تراجعت الموسيقى التصويرية أيضا، لصالح حوار مُسيطر أقرب للصخب في معظم الأحيان، وقد ينتقد البعض ذلك، لكني أراه مبرّرا، فكثيرا ما كنتُ أنتقد تحكّم الموسيقى التصويرية في مشاعر المُتلقّي، ودفعه للتفاعل مع أحداث ينبغي أن تفرض تأثيراتها بقوة دفع الصورة والسيناريو، أما الصخب فيمكن تبريره عبر قراءة رمزية، لأن الصوت العالي يُعد حيلة نفسية للهروب من أفكار هادرة تدور في أعماق الشخصيات المأزومة، لهذا أصبحت الضوضاء هى المسيطرة على حياتنا.

بقيت نقطة أخيرة لا علاقة لها بالعمل، لكن بأسلوب تلقّيه من الجمهور المصري، الذي كان ضعيفا لدرجة أن الفيلم لم يصمد أسبوعا في دور العرض، مع أن” توليفته” جماهيرية بالفعل، فهو يُفجّر طاقة من الضحك رغم سودواية الأحداث، وربما تكون اللهجة الأردنية هى السبب، خاصة مع جمهور عريض اعتاد أن يشاهد الأفلام المصرية فقط، مما يستدعي بدء ترويضه كي يعتاد التفاعل مع الفن الجيد أيا كانت جنسيته.

الكاتب والمُخرج رجل، لكنه قدّم فيلما يدافع عن المرأة بشراسة، لدرجة التحامل على الذكر، ويرفع شعار أن وراء كل امرأة تعيسة رجلا، ولكي يصل إلى تلك النتيجة جمع النماذج النسائية كلها في بيت واحد، رغم أن احتمالات اجتماعها تظل ضئيلة، لكن الفنّ يمكن أن يتجاوز احتمالات الواقع، خاصة إذا أراد أن يُطلق صرخة، تكشف للمجتمعات العربية ازدواجيتها، وتلقي الضوء بضراوة على زيفها الذي تختبىء منه وراء أقنعة مُستعارة، تحتاج إلى ثورة اجتماعية هادرة لإسقاطها.