عمرو منير دهب يكتب: كلنا يتشبّث بالسلطة.. الفصل السابع عشر من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

القناعة كنز لا يفنى، ولكن مَن يعثر عليه؟

تحدّي القناعة إذن يكمن في العثور عليها بوصفها كنزاً مخبّأً يتطلّب مجهوداً عظيماً لإيجاده وليس مجرد فكرة غائبة يذكِّرنا بها بعض المقربين المخلصين فننتبه إليها وتنتهي بذلك أطماعنا وبواعث القلق لدينا. هذا تشبيه بداعي التقريب ابتداءً، فمعضلة القناعة أشدّ تعقيداً من قطعة مادية – مهما تكن ثمينة – نحصل عليها بعد عناء فتكون في حوزتنا تماماً. القناعة أكثر مراوغة من ذلك، فهي إجمالاً طبع يكون متغلغلاً في بعضنا ويفتقده البعض إلى حدّ بعيد، وهو فوق ذلك كسائر طباعنا ليس ثابتاً، إذ لا يسلم من تقلّباته حتى أشدُّ الناس قناعة على أي صعيد. الأدهى، أن القناعة ليست خيراً في كل الأحوال، فكثيراً ما يكون الطمع هو الوقود الذي يؤجج الطموح ويحفز المغامرة سعياً إلى نجاحات واختراقات رائدة على كل صعيد.

الموازنة بين الطموح والقناعة والأمر كذاك ليست هينة بحال، بل هي مستحيلة، شأنها شأن الموازنة بين أيّ طرفي نقيض في أيٍ من مناحي الحياة. فالموازنة كما نسعى إليها ونتوقعها تشير إلى الكمال الذي هو مستحيل بالإجماع، غير أننا نتحايل على أنفسنا عندما نوهمها بأننا لا ننشد الكمال وإنما شيئاً قريباً منه نشعر معه بالطمأنينة والسكينة، والواقع أن المستحيل ليس الكمال وحده وإنما “القريب من الكمال” أيضاً.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: المصلحة أقوى من الحقيقة.. الفصل السادس عشر من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة”

ما نحتاج إلى العمل عليه من أجل تحسينه هو في الواقع طباعُنا الجامحة حين تتعدّى على الآخرين أو حتى عندما تقيّدنا بوضوح على صعيد ما دون أن تؤذي الآخرين في شيء، مع ملاحظة أن هذه ليست وصفة تضمن حلّاً سحرياً لنقصنا البشري الذي يظلّ – مهما يبلغ اجتهادنا في التعامل معه – نقصاً مستمراً نحاول سدّه من ناحية فننجح ثم لا يلبث أن ينهار من ناحية ثانية أو بضع نواحٍ أخريات.

والحال كتلك، ألا نتشبّث جميعاً بالسلطة حتى إذا بدا بعضنا أكثر استمساكاً بها من الآخر؟ نتحدّث هنا عن السلطة على أي صعيد وليس فقط في مواقع الإدارة والحكم في هذا المقام الرسمي وذاك.

حتى نرى مدى تعقيد المسألة، لنأخذ مثالاً يبدو نبيلاً، بل هو بالفعل من أبرز المواضع التي يمكن أن يتجلى فيها نبل السلطة: سلطة الأبوين على الأبناء. ما هي المرحلة التي يجب أن يقتنع عندها الأبوان بالتخلي عن سيطرتهما على الأبناء؟ هل يحدث ذلك التخلي – مهما يكن متأخراً – بمحض إرادة الأبوين أم رغماً عنهما؟ هل من المفترض أصلاً أن تكون ثمة سلطة أبوية – بالمعني السلطوي المحض، وأرجو أن يجوز التعبير – على الأبناء ابتداءً؟

تختلف الثقافات اختلافاً عريضاً وعميقاً على صعيد العلاقة بين الآباء والأبناء لا سيما عبر الزمان حتى في إطار الرقعة الجغرافية نفسها. ولكن، مهما يكن مدى الانفتاح في العلاقة، فإن للسلطة التي يمارسها الأبوان على الأبناء إغراءً لا يقاوم ولا يخلو بطبيعة الحال من دوافع نبيلة، بل تكاد تلك الدوافع النبيلة تسيطر تماماً على التبريرات التي يسوّغ من خلالها الأبوان استمرار تلك السلطة بشكل أو آخر لأطول مدى ممكن. وإذا كانت الحماية والرعاية في الطفولة، ثم التوجيه ونقل المعرفة والخبرة عندما يشب الأطفال عن طور الرعاية المباشرة، هي أبرز الدوافع النبيلة التي لا يرى الأبوان عبرها مهمتها ضرورية فحسب بل جليلة إلى ما يقرب القداسة، فإن إحساساً بالامتلاك والأحقية بالوصاية على الأبناء لا يكاد يفارق الأبوين حتى بعد أن يتزوج الأبناء وينجبوا، ولا يتحرّر الأبناء من سيطرة الوالدين لاحقاً إلا بقدر رغبتهما وبراعتهما في حسن (وربما حزم) التخلص من تلك السيطرة التي يصحّ في وصف سلوك الوالدين حيالها قولُ المتنبي في الدنيا: وبفكّ اليدين عنها تُخلّى.

بمزيد من تأمل بعض تفاصيل سلطة الأبوين، تبرز الأمُّ بوصفها الأكثر دهاءً في التعامل مع تلك السلطة، ففي حين يبدو الأب مباشراً إلى حدّ المصادمة، تبقى الأم محكمة سيطرتها إلى مدى بعيد على امتداد العلاقة، لن نقول دون أن يشعر الأبناء وإنما على الأرجح بمباركتهم، فعلاقة الأم بأبنائها يغلب عليها الطابع المعنوي – العاطفي بصفة أكثر تحديداً – حتى فيما يتعلق بإدارة شؤون الأبناء والعائلة المادية، والجوانب العاطفية للسيطرة أعمق أثراً عندما يتم التعامل معها بفطنة ومهارة، وحواء عموماً لا تنقصها الفطنة ولا المهارة على هذا الصعيد.

بالنظر إلى المراد بالسلطة في أحد أشكالها الأكثر مباشرة وإيحاءً بتداعيات وتجليات مفهوم السلطة، ومن خلال كتاب The Game of Nations: The Amorality of Power Politics لمايلز كوبلاند Miles Copeland، الصادر في ترجماته العربية بعنوان “لعبة الأمم”، نقلاً عن طبعة دار الكتاب العربي بدمشق والقاهرة (مقتطفات على الإنترنت)، نقرأ ضمن تقرير لخبير في الشؤون العسكرية بوزارة الخارجية الأمريكية منتصف القرن الماضي: “إن جوهر الحكم هو القوة. فالحكم ليس مجرد اقتراح اجراءات عامة أو إصدار أحكام قضائية، ولكنه اضطلاع بهذه الإجراءات وتنفيذ لتلك الأحكام. ولهذا كانت المحافظة على السلطة هدفاً في حد ذاتها، لا يختلف في هذا نظام عن نظام، مهما تعددت الأسماء وتبدلت الصور. وأما النجاح في تحقيق ذلك فيبقى رهيناً بانتقاء أكثر الوسائل ملاءمة وأضمنها نتيجة. ففي الأنظمة الدستورية تلعب التقاليد والقوانين الأساسية دوراً هاماً في فرض القيود على الوسائل المتبعة للمحافظة على السلطة”.

ألا تتجاوز تلك الرؤية أنظمة الحكم في الدول على اختلاف أشكالها لتشمل كافة أنماط السلطات المادية والمعنوية بلا استثناء تقريباً على كل صعيد مع تباين الدرجات بطبيعة الحال؟

بالجرأة على مواجهة أنفسنا بصراحة نكتشف أننا جميعاً – مهما ندَّعِ الانفتاح والإيمان بالحرية والديموقراطية – نتشبّث بالسلطة على نحو أو آخر ولا نعدم مبرّراً منطقياً وأخلاقياً لأي قدر نتلذّذ به لاستمرار جلوسنا على كرسيٍّ لعرش من أي قبيل.

للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي: ([email protected])